عندما كنت صغيرا كنت متيّما بقصة تحطيم سيدنا إبراهيم للأصنام. وغاص هذا الحب لهذه القصة فى أعماق الذاكرة. واستيقظ تعلقي بهذه القصة القرآنية أثناء الجهاد لإسقاط مبارك. واستيقظ لثالث مرة في هذه المواجهة الصغيرة مع المحكمة الدستورية العليا. فقد قيل لى من البعض "مالك ومال هذه المعركة التي تعرضك للمشكلات"، وقال البعض إنهم ليسوا أساس الداء بل مجرد مظهر له. وأقول: بسقوط مبارك لا شك تخلصنا من الصنم الأكبر وتفتت النظام إلى أجزاء عدة. والاستبداد يحتاج دائما لرمز مقدس يعطى مشروعية له ويدفع الناس للتحولق حوله. بقايا النظام الاستبداداى أرادت أن تخلق ولا تزال من المؤسسة العسكرية رمزا مقدسا لا يأتى الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فقالوا هى النواة الصلبة للدولة، وهى وحدها التى تحفظ مصر، وقالوا إنها المؤسسة الشريفة الوحيدة (لا يوجد بها عمولات مثلا!) وإنها المؤسسة المتماسكة الوحيدة.. إلخ، كل ذلك من أجل تثبيت المجلس العسكرى. وكان ممثلو هذه الفكرة يذرفون الدمع وهم يتحدثون عن الجيش المصرى الذى يشرفون بالدفاع عنه، كما يبكى المؤمنون عندما يستمعون إلى القرآن الكريم. ورغم سقوط المجلس العسكرى ظل هؤلاء ينعقون كالبوم مطالبين الجيش بالعودة إلى سدة الحكم لإنقاذ مصر. وكفر الليبراليون بالديمقراطية وبدأوا فى جمع توقيعات من أجل تولى الفريق السيسى الحكم. وعندما رفض الفريق السيسى هذا الزجّ بالقوات المسلحة فى السياسة وتحدث بمنتهى الاحترام عن صناديق الانتخابات. بدأ الهجوم عليه شخصيا وعلى أسرته فى بعض الصحف والقنوات الفضائية التى تمثل تحالف المخابرات والأمريكان. إذن أربك "السيسى" بموقفه المحترم قصة تقديس الجيش من أجل إعداده لحكم مصر. ونحن نرفض تقديس الجيش بمعنى تحويله إلى مؤسسة فوق النقد. وإلا فإنه لا خلاف حول مهمته المقدسة: الدفاع عن تراب الوطن وحماية النظام الدستورى. لذلك خاض حزب العمل معركة صريحة ومفتوحة ضد حكم المجلس العسكرى عندما ظهرت بوادر الرغبة فى البقاء فى الحكم لعدة سنوات. ومقالاتنا وبياناتنا وكتبنا تشهد على ذلك بالتواريخ. بل وشاركنا فى المظاهرات التى كانت تهتف بسقوط حكم العسكر فى التحرير والعباسية. وسقط منا جرحى على رأسهم المجاهد عادل الشريف وهو ضابط جيش متقاعد. وهذه لفتة مهمة، فنحن لا نعادى الجيش ولكن نعادى الزج به فى السياسة. ولم يكن موقفنا كالإخوان المسلمين ومن سار على دربهم من التحالف الكامل مع العسكر. والتيارات العلمانية التى كفرت بالديمقراطية لم تتخل بعد عن فكرة استدعاء الجيش؛ بل هذا هو هدفها من فوضى يوم 30 يونيو. وبالتوازى مع تقديس الجيش هناك معركة لتثبيت قدسية القضاء. كان المجلس العسكرى يتنازل فى أشياء كثيرة ولكنه كان يرفض بحزم أى تنازل فيما يتعلق بمطلب تطهير القضاء، وقد كان هذا موقفا ذكيا، لأن القضاء يملك العصا السحرية للمشروعية. وبما أنه قضاء مبارك (خاصة فى مستوى المحكمة الدستورية) فإن نظام مبارك هو الذى سيحكم على خطوات الثورة هل هى صحيحة أم لا؟ وهكذا ظلت محكمة مبارك الدستورية هى الفيصل والحكم فى كل خطوات الثورة. حتى أوقفت حال الأمة وألغت كل شىء، وما لم تستطع إلغاءه وصمته بعدم المشروعية (الشورى والتأسيسية). وهى تبذل قصارى جهدها لتعطيل الانتخابات النيابية حتى تتمكن حركة تمرد من تحقيق أهدافها. إن بقاء المحكمة الدستورية التى شكلها مبارك بعد أكثر من عامين من إسقاط مبارك لتقول لنا: ما الصواب وما الخطأ؟.. مهزلة أو نكتة سوداء أو إعلان بانتهاء الثورة والقضاء عليها. هذه المحكمة لا قيمة ولا مشروعية لها. ولا بد أن أعضاءها سيحاكمون عندما تكمل الثورة انتصارها، على ما اقترفوه فى حق الوطن. أما الذين يقدسونها فهم عبيد نظام مبارك أو عبيد أمريكا، القضاء الشريف فى الظروف العادية ليس فوق مستوى النقد. فكيف يكون الحال ونحن ننتقل من نظام إلى نظام ومن دستور إلى دستور ومن مرحلة إلى مرحلة. مهما كانت أخطاء الإخوان وخطاياهم فهى لا تبرر هذا العبث. فالإخوان كانوا جزءا من مكونات الثورة، ونختلف معهم بعد فشلهم فى إدارة البلاد وسنسقطهم إن شاء الله فى الانتخابات البرلمانية القادمة. إن تقديس المحكمة المباركية جزء لا يتجزأ من المؤامرة. بل مكون رئيسى فى تحركات الثورة المضادة (تذكروا كيف حولوا نائب عام مبارك إلى رمز القضاء الشامخ!). ولذلك يتعين علينا أن نحطم الصنم. هذا هو الصنم الوحيد المتبقى من عهد المخلوع ولا بد من تحطيمه (أعنى المحكمة الدستورية بتركيبتها الحالية). نعم أعلن ذلك مع سبق الإصرار والترصد؟ نحن مع فكرة القانون والقضاء والعدالة وحتى مع فكرة وجود محكمة دستورية عليا بضوابط معينة. ولكن ضد وجود محكمة قام مبارك وسوزان بتشكيلها، هذا احتقار للشعب المصرى ولثورته المجيدة ولدماء الشهداء ولفكرة العدالة والقضاء الشريف والنزيه والمستقل.