للوقت عيون.. عينان من صدر المرأة، انفجرتا، فرضع الأطفال. عين من الكرم دفعت الهم والحزن. عين من النحل شفاء للأبدان. وعيون الماء للناس يشربون منها ويتطهرون.. وعلى ترابى صبت عيون الماء فأثارت الفتنة، وأرغمت كدر التراب أن يقبض على الخيال والأوهام. فمن لى بقهر عيون الوقت؟! ففى قهره ألطاف مضمرة، وتسليم الروح من أجل أن يمتد فى العمر. *** كانت نفسى مخفية عن عيون العوام، وروحى مجردة من ضجة الجسد وضوضائه، فتكحلت برؤيتها فتجلى بصرى، فنظرت عينى جلدى وهو يحترق شوقا، فتبدل جلدى جلدا آخر. انسلخ جلد الكبر، وعلمت أنه لم يكتب أحد على ورقة مكتوبة فاحتطت على ورقتى البيضاء حتى أشرُف بالنون والقلم ما دمت غريقا فى دواية الفناء. *** كقطرة خل ذابت فى بحر، ذبت، فأحببت نفسى فيها، وأبقيتنى فى الأنا، وظللت فى البقاء وفى الفناء لحظة ممتدة فيمضى الوجود عن جسدى، وأصبح بأجمعى سمعا وأجد فى أذنى قرط الياقوت. *** أداوم الحفر فىّ، أداوم على إخراج التراب منى لينبثق الماء فى أرضى ويزداد دقّى لحلقة الوجود على بابه، فتصطدم رأسى بجدار البلاء، وتصطدم، وكلما اصطدمت وعت أذنى الصماء نصيحة القلب. *** عيون الوقت ترصدنى، وأنا أتحسر على جسدى المقيد بالأغلال فى قعر الجب، والحفل قد أُعد من أجلى، والعتمة قد بلغت مداها، فأصابنى الهلع، فجاهدت وجاهدت فى الطلب، فخرج جسدى من الجب، فصحت: «يا ليتهم يعلمون» وذرفت دموع الاحتراق فأوقدت الشموع، ومُدت المائدة، فرقصت للهوى. *** عيون جحظت من محاجرها.. عيون كلّت من الانتظار.. وكتبها لم تأتها بعد؛ فإن كنت قد أفرطت فى القتل، فليس علىَّ دية؛ فالدية على العاقل، والعقل ذهب منى، وهذا يوم الخرس، فوقفت فى الوقت دون أذن ودون شفة، فسقط منى كتاب العصيان مملوءا بالمعاصى فى المتن والحواشى. عيون دائرة ذات اليمين وذات الشمال، وذنبى أنى لم أدرك أن الخائفين لا يصلون إلى غبار العشاق، فعلمتِنى العشق، فتحول ذنبى إلى طاعة. *** الوقت ضيق.. وأمامى لحظة واحدة أتعلق بطرف الرداء، وأضع القفل على فمى، وفى القلب أسرار، والشفة صامتة والقلب محشوّ بالضجيج، والذين شربوا عرفوا فأخفوا وستروا عن العيون. *** عيون.. كلى عيون تنبثق منى، تعيد زبد الوقت فى اضطرابه وجيشانه، تعيد زبدى لترابيتى أصله، بعد غربته طويلا فى الماء، فلا أجد فى عيونى إلا أنتِ، أهرب منكِ عبر السلالم الخفية وأنتِ ملازمتى.. أنتِ وأنا، وكلما صرت بلا أنا صارت كل الأنات لى، يا لذلك التراب بأجمعه، لقد أعيانى من ذلاتى، فذلتى منه، ومنه فقهت ذل العاشقين، وأخذ التراب زينته وازّيّن بالخضرة وأصبحت عارفا بلغة التبديل، فحدثتنى الجبال الراسيات عن أحوال العاشقين فى ثباتهم وزجرتنى: «إن لم يُتصور عين الشىء المراد، يكون العيب منصبا على الصورة، لكن إياك أن تنفيها». *** الوقت ضيق.. والروح فى مراقبة ولا يمكننى أن أبثك عذرى الآن، فقللى من خمش صدرى؛ فمنزل القلب خلوة، ولقد كنست المنزل مما فيه فأصبح قلبى مشغولا بكِ، واتخذت الجوع دواء، فالخبز من أجل الشرهين، إن ماتوا تقدمهم قائلا: «يا من قتلتم أنفسكم من الحرمان، لقد مضيتم وبقيت، ولو كان عندكم صبر لأتاكم الرزق، ولأَلقَى بنفسه عليكم كما يفعل العشاق. إنه عاشق، لكنه يتلكأ عليكم ليعلم مدى صبركم» فنظرت صبرى، فقال صبرى: «لا تنظرنى انظر لعطائى»، فحِرت، فنظرت البحر وأمعنت النظر فحِرت. فقال: «من رأى زبدى تحدث بالأسرار، ومن رآنى حار، ومن رأى زبدى ينتوى النوايا ومن رآنى خاطر وأقدم، والذى رأى زبدى يكون فى دوار وطواف، والذى رآنى يكون صافيا؛ فكلانا عارض وعليك أن تحرك عروق الاختيار فيك، فافتح عيون الوقت وتعرف من اللهجة والبيان». *** للوقت عيون.. وعيون قلبى كانت على الرجاء، فأضرمت نارها فىَّ فأصلحت حالى، حين أحرقت جبرى واختيارى ونقطة منى يُمنى ملأتنى بالأقذار وملأت الدنيا صخبا وضجيجا.. أنا وأنا.. أنا، وأخذت أرتق ما تمزق بمعصيتى بخيط «ألست» فنفيى وإثباتى مقترنان بكِ، فانظرينى، فلقد جف قلمى، حين تركت كونى معشوقا وأنا عاشق أهب التاج لمن له رأس، والنسوة قامرن بالعقل، وحين سلب عقولهن لحظة واحدة مللن من العقل باقى العمر، فماذا لو رأيننى وأنا من الفراق أخلق الصور ومن اللقاء يبدو ما لم يدر فى الخلد؛ فجسدى الوعاء فيه القوت والتعب وحرقة القلب، والشراب متنوع والكأس واحد، وأفكارى الحزينة وإن قطعت أسباب السرور، فإنها تعد الأسباب من أجل الأفراح، فاكنسى المنزل بسرعة. *** أخرجينى من غفلتى؛ فأنا طالبك، فمتى يبحث عنى مطلوبى؟! ونفسى مطيتى وما أنا برافق بها، وأفكارى تتغذى على أفكارى، وخيالى يتغذى على خيالى، وأرضى واسعة تطل منها أشجار الفكر، ومنازلى الأرض ذات السقوف والأبواب. *** عيون الوقت.. عيون لا تقنع بالأرض.. والتاج يبحث عن الرأس، وسعى إلى تمام الدائرة وطى قوس الصعود، وأنا فى عذاب بيتى.. والمائدة مُدّت وكأس العهد التى شربناها فى يوم الحضور ما زالت فى موضعها على المائدة، وخرقة جسدى التى مُزقت من أجلك، من العيب أن أرتقها؛ فلقد قطعت مراحل قوس النزول دون أن أدرى منزلى. وإذا بدأ قوس الصعود، انفجرت العيون وصرخت: «ربى لا تذرنى فردا» فرقصت عيونها وقالت: «ارقص.. فإن القلب لا يحتمل كل ما فيه». *** الوقت ضيق.. دعنى، ضاق صدرى بالرجال الذين بهم خَور وما أنا بمصرخهم.. ألم يأن لهم أن يتركوا ذيل خرقتى؟! خرقتى الممزقة تحمينى من أعينهم فلا يرون فيها إلا البلى، ولقد أخذت نفسى بالاخشوشان، وفطمتها عن اللذائذ حتى لا تتمرد علىَّ، وأنا فى نوى بعد نوى، وقلبى يسع ما لا تسعه السعة، وأبحث عن سرورى خارجه وأنتِ سرورى فاصعدى على سلالمى الخفية.. اصعدى حتى أضع التاج على رأسكِ؛ فلقد خرجت من الجب، والمائدة مُدَّت وأُشعلت الشموع بنار دموعى، وكَنستُ قلبى بكل ما فيه لتملئيه، وقدمى على الدرجة الأخيرة حيث ينتهى الصعود، فتعالى قبل أن تأتى الواردات متطفلات على قلبى إذا خدعتنى نفسى بالاستراحة. على درجتى الأخيرة لم أجد سواكِ، وغابة من الأيادى تتشبث بخرقتى، تنزعها عنى، فتسَّاقط أمطار دموعى، تسترنى.. تساقط على ترابيتى فأخذت أرضى زينتها وازينت بعد ما صبرت طويلا على بلاء بعدك، فأوزعينى أن أشكرك، واعلمى أن عمرى يتجدد ماؤه أولا بأول كلما غفت عيون الوقت. *** بعدما نجحت الثورة.. ذهب كل واحد حتى أولئك الذين كانوا يتهمون شباب مصر بالنزق و الطيش.. يدعى أنه مفجر الثورة وملهمها.. لهؤلاء دون غيرهم نقول.