على ضوء ما كشفت عنه صحيفة «ذا جارديان» فى عددها الصادر، يوم الخميس 28 مارس 2013، من أن عائلة الرئيس المخلوع حسنى مبارك تمتلك أصولا مالية مودعة فى الأراضى البريطانية، وأن جمال نجل المخلوع يجنى نحو 188 ألف يورو سنويا من عائدات هذه الأصول المالية فى جزر فيرجين، مع اعتراف «هيرميس» المصرية بأن جمال مبارك يمتلك نحو 17.5 % من أسهم الصندوق المسجل فى جزر الفيرجين البريطانية.. نظمت المبادرة المصرية للحقوق الشخصية نقاشا مفتوحا نهاية مارس الماضى بنقابة الصحفيين، بمناسبة إطلاق تقرير: «هل نستعيد أموالنا المنهوبة؟.. أموال مصر المهربة بين صفقات التصالح وأحكام البراءة والفساد المؤسسى». واستضافت المبادرة المصرية فى هذا اللقاء الباحث والناشط «نيك هيلديارد» مدير منظمة كورنر هاوس غير الحكومية، المعنية بالحقوق البيئية والاقتصادية. قدم هيلديارد بحثا مطولا عن أصول جمال مبارك فى الملاذات الضرائبية، وتحديدا فى جزر «العذراء» البريطانية على مدار الأشهر الماضية، بالتعاون مع المبادرة المصرية. وأخيرا أُصدر التقرير الذى يتناول مسألة تهريب الأموال المصرية، واحتمالات استعادتها، وتأثير أحكام البراءة وصفقات التصالح المعلنة وغير المعلنة، فى استرداد الأموال المنهوبة، فضلا عن خطورة إسناد تبعية هذا الملف إلى الجهاز التنفيذى ممثلا فى وزارة العدل؛ لما يواجهه من تقلبات سياسية، وتأثير شبكات مصالح النظام السابق فى الجهاز البيروقراطى فى مصر؛ ما يعوق إمكانية إحراز تقدم فى هذا الملف. وأعد الملف للنشر الباحث أسامة دياب. يبحث التقرير بدايةً فى الدوافع التى تقف وراء عملية تهريب الأموال إلى الخارج. ويأتى على رأسها غسيل الأموال، وهو ما يطلق على محاولات إضفاء الشرعية على الأموال التى اكتُسبَت بتجارة غير شرعية، كالمخدرات أو السلاح أو الاتجار فى البشر، إلا أن أغلب الأموال التى جمعها رموز نظام مبارك لم تكن من نشاط غير شرعى بالمفهوم التقليدى، بل إن طريقة التربح الرئيسية كانت تتم عبر ما يمكن وصفه بالفساد المقنن أو «قوانين صناعة الفساد»؛ فما الدافع إذن إلى تهريب وتصدير أموالهم إلى بنوك فى الخارج؟ لماذا تهريب الأموال؟ يُعتقَد أن الدافع الرئيسى لخروج تلك الأموال هو حالة عدم الاستقرار السياسى والاقتصادى والاضطرابات الاجتماعية التى شهدتها مصر قبل ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011. وتقدر منظمة «جلوبال فاينانشال إنتيجريتى» لمكافحة تهريب الأموال -ومقرها العاصمة الأمريكيةواشنطن- حجم الأموال المهربة من مصر تهريبا غير شرعى، بنحو 132.28 مليار دولار (أى ما يعادل 847.444 مليار جنيه مصرى). ويُقسّم هذا المبلغ -حسب المنظمة- إلى نحو 70 مليار دولار ناتجة من اختلال فى ميزان المدفوعات الذى عادة ما يقيس الفساد والرشوة والعمولات غير الشرعية، وبقية المبلغ ناتج من سوء التسعير الذى يعد وسيلة من وسائل التهرب الضريبى. أما عن وسائل تهريب الأموال فتتنوع، لكن يبدو أنه من أسلم الطرق التى لا تسمح بإمكانية تتبّع المال، هى تهريب المال السائل (كاش). وذاعت أنباء عن إلقاء القبض فى دبى على رجل الأعمال المصرى حسين سالم المقرب من الرئيس السابق والشريك فى شركة غاز شرق البحر المتوسط التى تتولى تصدير الغاز المصرى إلى إسرائيل بسعر بخس، وبحوزته 500 مليون دولار -أى ما يعادل نحو 3.2 مليارات جنيه مصرى- فى 31 يناير 2011 -أى فى أثناء اندلاع التظاهرات المناهضة لحكم مبارك- ما يجعل هذه الحالة أيضا مثالا للعلاقة الطردية بين الاضطراب السياسى وهروب الأموال إلى الخارج. وتشير وزارة الأمن الداخلى الأمريكية إلى أن نقل المال السائل بكميات كبيرة يهدف إلى إخفاء الأموال الفاسدة والنشاطات المرتبطة بها عن أعين السلطات والأجهزة الرقابية. الدور المشبوه للمصرف العربى الدولى وكانت أصابع الاتهام قد اتجهت بعد الثورة مباشرة إلى بنوك لا تخضع حساباتها لإشراف ورقابة البنك المركزى؛ على رأسها المصرف العربى الدولى الذى تأسس عام 1974 طبقا لاتفاقية دولية تجمع بين حكومات مصر وليبيا وعمان وقطر والإمارات. وكان الغرض من الإنشاء -حسب موقع البنك- هو القيام بجميع الأعمال المصرفية والمالية والتجارية المتعلقة بمشروعات التنمية الاقتصادية والتجارة الخارجية، وخاصة للدول الأعضاء وغيرها من الدول والبلدان العربية. ويقبل المصرف فتح الحسابات للحكومات والهيئات والمؤسسات والبنوك والشركات والأفراد من البلاد العربية وغير العربية. واستنادًا إلى هذه الاتفاقية، فإن المصرف العربى يتمتع بوضعية قانونية خاصة، ولا تسرى عليه القوانين المنظمة للمصارف، ولا تخضع سجلات المصرف الذى كان يتعامل بالدولار فقط، لقوانين وقواعد الرقابة والتفتيش القضائى أو الإدارى أو المحاسبى. وتجدر الإشارة إلى أنه قد حامت الشبهات حول المصرف باضطلاعه بتهريب الأموال لأركان نظام مبارك؛ بسبب وضعه الخاص. وتقرر إخضاعه لرقابة البنك المركزى فى مارس 2012 -أى بعد أكثر من عام على اندلاع الثورة المصرية- بعد 38 عاما من العمل بدون رقابة. ورغم عدم وجود أدلة قاطعة تبرهن على استخدام المصرف العربى قناةً لتهريب الأموال إلى الخارج، استغلالا لسرية التعاملات ولغياب الرقابة وعدم وجود تحريات جدية؛ فإن وجود ثغرات كبيرة كتلك فى الجهاز المصرفى للدولة، من شأنه تسهيل عملية تهريب أموال النظام السياسى القائم كثيرا. المساهمة فى صناديق الاستثمار ومن أبرز صور تهريب الأموال، تحويل الأموال إلى الخارج فى صورة أرباح نتيجة المساهمة فى شركات مصرية عن طر يق شبكة معقدة من صناديق استثمار فى الخارج. وأكبر مثال معلن على ذلك هو شركة «ميد إنفيست» البريطانية المملوكة لجمال مبارك التى لا يتعدى رأسمالها 50 ألف جنيه إسترلينى لكنها كانت تتحكم وتدير الملايين من الجنيهات فى صورة أسهم فى شركات مصرية تعمل فى مجالات مختلفة؛ منها تكنولوجيا المعلومات والسياحة، والأسمنت والبنوك، والأغذية والمنتجات الزراعية. وتتسم هذه العلاقة بشبكة معقدة ومترابطة من الشركات فى قبرص وموريشيوس وبريطانيا ومصر بحيث يصبح من الصعب معرفة المالك الأصلى وحصته وتعقّب أمواله وأرباحه؛ بسبب تعقيدات هذه الشبكة التى غالبا ما تنتهى فى واحدة من الدول التى تشتهر بسرية حساباتها وعدم الإفصاح عن هوية مُلاّك الشركات. ومن أشهر هذه الدول أو الجزر الصغيرة المانحة للسرية فى التعاملات، موريشيوس، وجزر العذراء البريطانية، وجزر الكايمان، وبنما. وليس من الغريب أن أصول وأموال مبارك عادة ما تكون مرتبطة بتلك البلدان بشكل أو بآخر. ويشرح نيك هيلديارد مؤسس منظمة كورنر هاوس، الذى قضى شهورا طويلة فى محاولة تتبّع أصول نظام مبارك، أن من أهم وسائل نزوح الأموال إلى الخارج ونهب الثروات هى أن يحصل ممثل للشخصية السياسية، عند الإعلان عن خصخصة شركة قطاع عام أو تخصيص قطعة من الأرض، على قرض بدون ضمانات من بنك حكومى بتوصية من شخصية ذات نفوذ سياسى. ويستخدم هذا القرض لشراء الشركة المعروضة للبيع أو الأرض بسعر بخس باستخدام دوائر النفوذ ذاتها، ويُباع هذا الأصل فيما بعد إلى مستثمر أجنبى بسعر أعلى كثيرا. وغالبا ما يباع الأصل إلى صندوق استثمار يصعب تتبعه. وتكون للشخصية السياسية حصة فى الصندوق (أحيانا عن طريق ممثل)، ويكون من الصعوبة بمكان -طبقا لهيلديارد- إثبات تورط الشخصية السياسية فى هذه العملية؛ لأن أسماءهم لا تظهر عادة على المستندات الخاصة بالقرض أو بالشركة. ويضيف هيلديارد أن ما يزيد الأمر صعوبة، هو أن العديد من هذه الصناديق التى تئوى وتحرّك الأموال المنهوبة، مسجلة فيما تسمى «جنات الضرائب»، وهى بلدان صغيرة لا تفصح عن هوية المساهمين فى الصناديق المسجلة فى الأماكن التى تخضع لولايتها القضائية. وحتى فى البلدان التى تعلن عن أسماء المساهمين، تكون –عادة- هذه الأسماء لممثلين للشخصية السياسية المنتفعِة. ويضرب هيلديارد مثالا على ذلك عند إعلان بنك الاستثمار المصرى عن تملّك جمال مبارك نسبة 18% من شركة «إى إ ف جى هيرميس» التى تدير صناديق استثمار فى الخارج وفى مصر. وتقول الشركة إن جمال مبارك يملك هذه الحصة عن طريق حصته فى شركة بوليون القبرصية، التى تبلغ 50%، وبوليون بدورها تملك 35%من هيرمس. لكن باطلاع هيلديارد على السجلات القبرصية، اكتشف عدم ظهور اسم جمال مبارك مساهما أو شريكا فى شركة بوليون رغم تصريح هيرمس، لكن يبدو أن حصته المزعومة كانت تمثلها شركة Panworld Investment INC المسجلة فى جزر العذراء البريطانية، ثم شركة Nakoda Limited القبرصية التى تملكها شركة قبرصية أخرى تدعى CP Palema Services Limited. ويختتم هيلديارد ملاحظاته بالقول: «إن مالك هذه الشركات فى الغالب تكون شركة مسجلة فى جنة من جنات الضرائب؛ حيث تتمتع بالسرية والتكتم كما سبق الذكر. وهنا فإن أى مواطن أو جهة مستقلة تحاول تتبع هذه الأصول سينتهى بها المطاف إلى سد من السرية»، لكن يؤكد هيلديارد أنه فى وسع السلطات فى مصر وفى بلدان أخرى طلب معلومات عن هذه الشركات، لكن يعتمد الرد على مدى رغبة جنات الضرائب والسرية فى التعاون. وحتى إذا تعاونت وأفصحت عن المعلومات فقد تتكون حلقة جديدة من الملكية تقود إلى بلد آخر قد يستغرق سنوات لكشف المالك الحقيقى. كيف نستعيد الأموال؟ ويتساءل التقرير بعد ذلك عن كيفية استعادة الأموال، مشيرا إلى أن استعادة أموال الأنظمة السياسية القمعية عملية غاية فى التعقيد، وغالبا ما تستغرق سنوات طوالا، وهى عملية تتطلب إرادة سياسية قوية من كافة الأطراف المعنية، مع توافر خبرات فى مجال تعقب واستعادة الأموال، وممارسة جهود قانونية وتحقيقية وقضائية ودبلوماسية وإعلامية متميزة. وبالنسبة إلى خطوات استعادة الأموال فى سويسرا فتنقسم إلى خمس خطوات: تعريف الأصل غير الشرعى عن طريق وسيط مالى يشتبه فى عملية مالية معينة، فيبلغ السلطات عنها، ثم فتح تحقيق جنائى عن الفساد فى البلد الذى نُهبِ منه الأموال و/أو عن غسيل الأموال فى البلد الذى توجد فيه الأصول محل النزاع، ثم تعاون البلدين عن طريق المساعدة القانونية المتبادلة فى القضايا الجنائية. ويحتاج البلد المستقبِل للأموال إلى أدلة فيما يتعلق بغسل الأموال، فيما يحتاج بلد المنشأ إلى إثبات اتهامات الفساد فى السجلات المصرفية عن طريق التحقيقات. يلى ذلك إصدار حكم قضائى نهائى من بلد المنشأ أو البلد المستقبل يقضى بفساد هذه الأموال، وأخيرا تفعيل قرار المحكمة ورد الأموال إلى بلد المنشأ. ويمثل النموذج النيجيرى واحدا من أنجح النماذج فى مجال استعادة الأموال المهربة؛ فبعد وفاة الدكتاتور النيجيرى السابق سانى أباتشا، أجرت الحكومات المتعاقبة تحقيقات موسعة وحملات واسعة لاستعادة أموال أباتشا ومعاونيه المخبأة بالخارج فى شبكة معقدة من الحسابات البنكية والشركات الواجهة فى المملكة المتحدة وسويسرا ولوكسمبورج و لخنشتاين وجيرسى وجزر الباهاما. بدأت عملية استرداد الأموال عن طريق تحقيق شرطى خاص فى عام 1998. وفى سبتمبر 1999 استعانت الحكومة النيجيرية بخدمات مكتب محاماة سويسرى يدعى «مونفرينى وشركاه» فى تعقب واسترداد الأموال النيجيرية فى الخارج. وبحلول ديسمبر عام 1999 قبلت السلطات السويسرية أول طلب للمساعدة القانونية المتبادلة؛ ما أتاح إصدار قرار عام بالتجميد، إلا أن الحكومة السويسرية قد اشترطت الحصول على حكم نهائى بالمصادرة من المحاكم النيجيرية، وهو ما كان أمرا صعبا على المستويين القانونى والسياسى فى تلك الفترة فى نيجيريا؛ وذلك حتى استطاع مكتب مونفرينى الحصول على حكم تاريخى بعدم الحاجة إلى حكم المصادرة النهائى لوجود ما يكفى من أدلة تثبت فساد أباتشا وأعوانه. وقد استغرق الأمر حوالى سبع سنوات حتى استردت نيجيريا شيئا من الأموال؛ لكثرة الطعون المقدمة من عائلة أباتشا وأعوانه وعائلته ضد قرارات التجميد، حتى استردت فى عام 2005 و2006 ما يفوق نصف المليار دولار. ولا يزال بعض التحقيقات جاريا بشأن أموال هذا النظام بعد مرور حوالى 15عاما على وفاة أباتشا. فى المقابل فإن أداء الحكومات المتعاقبة فى مصر عقب الإطاحة بمبارك كان سيئا. ويعتقد الدكتور «مارك بيث» أن الحكم على مبارك فى قضايا قتل المتظاهرين وبراءته من قضايا الفساد قد يعوق جهود إثبات أن أرصدة مبارك ورجاله فى البنوك ناتجة من ممارسات فاسدة. ويقول مسئول وزارة الخارجية السويسرية «فالنتين زيلفيجر» إن إعادة أموال إلى مصر مرتبطة بربط الأموال بالجريمة والأحكام القضائية. ومن الممكن أن يأتى هذا الحكم إما عن طريق المحاكم المصرية أو السويسرية، ومن ثم فإن أحكام البراءة فى المحاكم المصرية قد ترفع التجميد عن الأموال إذا لم يصدر حكم قضائى من محكمة سويسرية. إن التحدى القانونى الأساسى الذى يواجه الجانب المصرى هو إثبات أن أموال مبارك قد جُمعت بأسلوب غير قانونى فى ظل نظام تشريعى يسيطر عليه الحزب الوطنى الحاكم آنذاك عن طريق تزوير الانتخابات وشراء الأصوات وإرهاب الخصوم السياسيين والسيطرة على وسائل الإعلام، بالإضافة إلى مجلس وزراء وأمانة السياسات بالحزب الحاكم سابقا، التى كانت تخضع فعليا لحفنة من رجال أعمال منذ 2004 فيما عُرفت ب«حكومة رجال الأعمال»، وإقناع الأطراف الخارجية بوجود هذه الشبكة من المصالح بالأدلة، وأن النظام لم يكن فى حاجة إلى الفساد الجنائى لسيطرته على السلطة التشريعية بالقمع، ومن ثم صعوبة إثبات أن تلك الممارسات تمت بالمخالفة للقانون.