فى كتابه المشوق، يحكى الكاتب إبراهيم الأزهرى صلته بالكاتب الكبير على أحمد باكثير، وكيف التقاه، والصلة التى جمعتهما؛ إذ يذكر أنه تعرف للمرة الأولى من جدته أن الأديب الكبير تزوج مطلقة أبيه السيدة هاجر مرسى، وهى التى أنجب منها والده أخته «إجلال» ربيبة باكثير، ويحكى أنه التقاه على صفحات الكتب الأدبية، فقرأ له وظل يحلم أن يلتقيه حتى جاءته الفرصة وهو فى الثامنة عشرة من عمره؛ حين رحل إلى القاهرة ليحيا مع عائلة أبيه الكبيرة. وننقل من أقواله بتصرف وتلخيص: «وتحقق الحلم وذهبت لزيارة الأديب بمنزله بالمنيل. كنت مرتجفا خائفا أول مرة، ثم شعرت بالهدوء والطمأنينة نحوه؛ لطلعته الوقورة وجلال مُحيّاه. وعرفت أنه يحيا حياة هادئة، محافظا على صلاته(...) ثم قام من بيننا وأعد لنفسه القهوة وأخذها مستأذنا إلى حجرة مكتبه وأغلق الباب عليه. وكانت الزيارة الأولى فاتحة خير؛ إذ أخذت أتردد كثيرا على منزله، وصرت واحدا من أفراد الأسرة المهمين، وأصبحت أحظى باهتمام باكثير وأناقشه فى القضايا الأدبية والفنية، وهو يبادلنى الحوار نفسه». وقد أثمر هذا القرب أن نقل إلينا فى كتابه المشوق، مشاهد عديدة من الحياة الحافلة لهذا الأديب المهم، فقدم لنا، عن قرب، خصاله الكريمة وأخلاقه النادرة، وكيف كان ودودا محبا للآخرين، متواضعا غاية التواضع، كارها للأضواء، حنونا عطوفا، يزور الأصدقاء وأقارب زوجته فى مناطق متفرقة بالقاهرة، ولم يكن يحس بالغربة فى مصر، بل كان يحس بالراحة فيها والرضا كل الرضا. المقاومة بالكتابة ويحكى عندما زاره فى عمله: «عندما زرته فى مكتبه بمبنى مصلحة الفنون بشارع قصر العينى، حزنت لما وجدته يجلس على مكتب رث وبالٍ لا يتناسب مع وضعه الأدبى، وكنت لا أقدر على معاودة الذهاب إليه فى مكتبه. وكنت أكتفى أن أراه لمدة ساعات فى منزله، والحقيقة أن نجمه بدأ يأفل فى الستينيات، ولم يكن يحدثنى بهذا الشأن(...) وكان لا يكف عن الكتابة على الرغم من أن صحته كانت تعتريها الآلام؛ فقد كان مقاوما لظروف تجاهله بمزيد من الإنتاج الأدبى الجميل». كانت حياة الأديب الكبير التى قدم لمحات منها كتاب الأزهرى، حافلة بالعطاء الأدبى شعرا ونثرا، فكان لا يفارق مكتبته الخاصة إلا إذا كان فى عمل، أو فى لقاء أدبى فى الصالونات والجمعيات الأدبية، مثل نادى القصة، ودار الأدباء، ورابطة الأدب الحديث، وكان دائم القول بأنه كاتب متفائل مؤمن بالإنسان جزءا من إيمانه بالله، يتمنى أن يعيد الله العرب خداما للإنسانية شهداء عليها، وكان يرى الإسلام بناء حضاريا متكاملا عرف كيف يصمد، كما تحققت الانتصارات تحت رايته. ويذكر الكاتب أن باكثير كان صاحب فضل؛ إذ تولى تربية أخته تربية حسنة وجادة، وزوجها وكان زوجها عمر العمودى هو رفيق باكثير الذى لقى ربه فى 10/11/1969، بين يديه قائلا: «اسندنى يا عمر.. أشهد أن لا اله إلا الله». ويظل هذا الكتاب كاشفا لجوانب هامة لا يعلمها كثير من الناس عن الأديب الكبير المثابر الذى كان يكتب عشر ساعات يوميا حتى أصابت الآلام فقرات ظهره. وكان من طقوس كتابته أنه يكتب بأقلام رديئة الصنع؛ إذ لا يصرفه انسيال الأفكار عن التدقيق فيها، فأنجز منجزا أدبيا حافلا؛ فهو الكاتب الوحيد الذى قدم موسوعة تاريخية عن الفاروق عمر رضى الله عنه من تسعة عشر كتابا، سبقها بآلاف القصائد وعشرات المسرحيات القصيرة والطويلة والروايات. ويكفى أن نعلم أن ثلث إنتاج باكثير لا يزال مخطوطا. هوامش: «أيام مع باكثير»، إبراهيم الأزهرى- «باكثير فى مرآة عصره»، محمد أبو بكر حميد - «هؤلاء عرفتهم»، عباس خضر.