ضجة كبيرة تصدر عن التصريحات والخطوات الأمريكية الأخيرة، وقد بدأ هديرها مع اعلان الرئيس الامريكي جورج دبليو بوش مبادرة لعقد مؤتمر دولي يتناول الصراع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ثم اعلن عن قرار امريكي «لم يحظ بموافقة الكونجرس بعد» بتقديم صفقات اسلحة لدول الخليج ومصر واسرائيل، «تأكيدا على اهتمام امريكا بامنها ازاء التهديدات الايرانية، ثم جاءت الزيارة المشتركة الصاخبة لوزير الدفاع الامريكي روبرت غيتس ووزيرة الخارجية كونداليزا رايس لكل من مصر والسعودية، ثم انتقال رايس غير المبرمج الى دولة الكيان الصهيوني.
انصبت التصريحات الامريكية باتجاه دعم «الاعتدال» العربي ضد ايران وسوريا وحزب الله وحماس مع تركيز خاص على «تطلعات ايران» و«تهديدات ايران» و«القلق العربي من تلك التطلعات والتهديدات»، مما دفع امريكا لنجدة العرب من هذه التطلعات والتهديدات بالاعلان عن تسليحهم بما يساوي عشرين مليار دولار الى جانب زيادة تسليح الدولة العبرية، بما يعادل ستمائة مليون دولار اضافة الى المقرر سنويا، أو بما يصل إلى ستين مليار دولار ستحول الى اعفاءات ومنح، اما العشرون مليار دولار لدول الخليج فتدفع مسبقا، وعدا ونقدا، ومع احتساب الفوائد، هذا وبلا حاجة الى الحديث عن نوعية ما سيقدم من سلاح وتكنولوجيا للجيش الاسرائيلي تحت حجة تقديم صفقات سلاح للعرب.
والسؤال ماذا وراء هذه الضجة، وما هي الاستراتيجية الامريكيةالجديدة التي حملها غيتس ورايس للدول العربية؟
بداية تأتي التحركات الامريكية الاخيرة مهتزة بلا نسق تحت اسم «الاستراتيجية الجديدة»، فهي دون مستوى اطلاق مسمي «استراتيجية» عليها لما تتكشف عنه من ارتجالية واستعجال، وضجيج يبدو مفتعلا، اكثر منه عملا مدروسا بإناة، سيتسم بالمواظبة عليه، فتلحق به خطوات متماسكة خطوة بعد اخرى.
بالنسبة الى المؤتمر الدولي فقد تبين انه مجرد فكرة تناقش الآن بين المعنيين أو المقصودين بها، فمكانه وموعده واجندته واعضاؤه تحت التداول، وهذا يحتمل الفشل أو التلفيق اكثر مما يحتمل النجاح الذي راهن عليه من اعتبروا المبادرة ذات «عناصر ايجابية»، فهذا التخبط هو الذي دفع كونداليزا رايس لتنتقل الى فلسطين لمقابلة القيادات الاسرائيلية حتى تستطيع ان تجيب عن الاسئلة التي طرحت حول المؤتمر واهدافه واجندته وامكانات نجاحه، وهناك تبين ان اقتراح المؤتمر لم يدرس تفصيلا مع الذين يضعون سقف التحرك لبوش وادارته، فعلى سبيل المثال دعت كونداليزا رايس العرب والاسرائيليين «إلى اغتنام الفرص لتحريك عملية السلام» من دون ان توضح اين تلك الفرص، وقد حددت لها تسيبي ليفني وزيرة الخارجية الاسرائيلية سقفا في «الفرص» قائلة ان اسرائيل لا تريد تفويت فرص تشجيع الحوار مع عباس والحكومة الفلسطينية، وهذا ما ينطبق عليه المثل العربي «تمخض الجبل فولد فأرا»، فضلا عن الاهانة التي تلقتها رايس من هذا التفسير للفرص.
اما موضوع صفقات الاسلحة فهي اقرب الى الارتجال ايضا مع عدم اغفال ما وراءها من نهب لاموال خليجية، ومن رفع مستوى التسلح الاسرائيلي، مما يزيد من الهوة في موازين القوى العسكرية في المنطقة بالاضافة إلى الحاجة إلى رفع معنويات الجيش الاسرائيلي، وهو يحاول عبثا ان يشفى من هزيمته امام المقاومة التي قادها حزب الله في لبنان.
تبقى نقطتان اساسيتان وراء هذه الضجة: هما التحضير للحرب على ايران في محاولة لحشد موقف عربي ضدها يخدم اذا تحقق دبلوماسيا وعسكريا، والثانية الدفع باتجاه تعميق الانقسامات الداخلية الى ابعد حد ممكن في فلسطين ولبنان والعراق وكذلك الانقسام العربي- العربي ضد سوريا وحزب الله وحماس والمقاومة العراقية.
هدف الحشد العربي ضد ايران يتعارض في كثير من نقاطه مع ما هو معلن من سياسات عربية تطالب بعدم اللجوء إلى القوة في معالجة موضوع البرنامج النووي الايراني والبقاء في حدود العمل الدبلوماسي والتقيد باتفاقيات وبروتوكولات الوكالة الدولية للطاقة النووية، ثم اين المصلحة العربية في عداوة ايران واستعدائها، وفي الوقوف الى جانب الدولة العبرية وامريكا ضدها، وهي التي تؤكد على سلمية برنامجها النووي ولا دليل يسجل عليها حتى باعتراف رئيس الوكالة الدولية للطاقة النووية محمد البرادعي، ثم ماذا يحدث ان اوقدت نيران العداوة العربية ضد ايران، وتم التوصل الى اتفاق دولي حول البرنامج النووي الايراني، بل ماذا يحدث اذا وقع العدوان وكان مصيره مصير العدوان على لبنان وهذا هو المرجح بالتأكيد اذا ما وقعت الواقعة.
اما الحشد ضد سوريا وحزب الله وحماس والمقاومة العراقية والدفع باتجاه الحروب الاهلية في فلسطين ولبنان والعراق والتأزيم الاقصى مع سوريا والاستعداء عليها فمتعارض ايضا مع المصلحة العربية وفي مقدمتها المصرية والسعودية والخليجية والتي سعت مؤخرا لرأب الصدع في فلسطين «اتفاق مكة وتشكيل حكومة الوحدة الوطنية ثم الدعوة الى الحوار بعد الانقسام بين قطاع وضفة»، والى اتفاق وتفاهم لبناني- لبناني، وكذلك عراقي وعراقي ووأد الفتنة بين شيعة وسنة وأين الاشارة الى الاحتلال غير الشرعي للعراق، واخيراً وليس آخرا اين المصالحة مع سوريا واستعادة التضامن العربي كما عبرت عن ذلك القمة العربية في الرياض، واية مصلحة عربية في التخلي عن السودان والصومال.
هذا يعني ان حملة غيتس ورايس الاخيرة لن تصيب النجاح الذي يأملانه منها فهما يدعوان «الاعتدال العربي» الى الانتحار، أو ما يقرب ان سلم لهما القيادة ولهذا فان مصير السياسة الامريكيةالجديدة الى تعثر ان لم يكن الى فشل اما اذا اصابت بعض نجاح هنا وهناك فالمصير هو الفشل فشعوبنا العربية لن تسمح ان تحقق امريكا واسرائيل عبر الانقسامات الداخلية ما لم تحققاه بالعدوان العسكري.