بوفاة المفكر الفرنسى رجاء جارودى عن عمر تناهز 98 عاما، يطوى كتاب حياة فكرية وسياسية مثيرة وحافلة بالعطاءات والاجتهادات التى كانت محل جدل واسع النطاق تجاوز حدود فرنسا. طبع المفكر الراحل الذى اعتنق الدين الإسلامى، بعد أن كان شيوعيا ملتزما فى صفوف الحزب الشيوعى؛ الساحة الفكرية الفرنسية والغربية بمواقفه المغردة خارج السرب، فى مناهضته الرأسمالية المتوحشة والسياسات التوسعية، ودفاعه عن الحقوق الفلسطينية؛ الأمر الذى وضعه فى معارك إعلامية وفكرية متواصلة. ورغم الرصيد الفكرى الضخم الذى خلّفه المفكر الفرنسى، فإن كتابه الذى نشره بعنوان «الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية»، يظل المحطة الأكثر إثارة للجدل فى مساره الطويل؛ إذ جر عليه محاكمة شهيرة فى فرنسا سنة 1988 بتهمة التشكيك فى المحرقة اليهودية خلال العهد النازى. وُلد جارودى من أم كاثوليكية وأب ملحد، وسرعان ما تحول عنها كى يعتنق البروتستانتية فى الرابعة عشرة من عمره، قبل أن تدركه الرياح العاتية الآتية من الشرق، فانضم إلى الحزب الشيوعى الفرنسى، لكنه ما لبث أن صنع النقلة الكبرى فى حياته باعتناقه الدين الإسلامى عام 1982. وقد فسر المفكر الراحل فى كتابه «الإسلام دين المستقبل»، اختياره الدين الإسلامى، بما أظهره من «شمولية كبرى»، وب«استيعابه كافة الشعوب ذات الديانات المختلفة، وقبوله أتباع هذه الديانات فى داره منفتحا على ثقافاتهم وحضاراتهم». ويعتقد جارودى أن «هذا الانفتاح هو الذى جعل الإسلام قويا ومنيعا». ومن أهم مؤلفات جارودى كتاب «لماذا أسلمت؟.. نصف قرن من البحث عن الحقيقة»، و«الأصوليات المعاصرة.. أسبابها ومظاهرها» و«محاكمة الصهيونية الإسرائيلية»، و«حفارو القبور.. الحضارة التى تحفر للإنسانية قبرها»، و«الولاياتالمتحدة طليعة الانحطاط»، و«وحوار الحضارات»، و«كيف نصنع المستقبل؟». تبدو سيرة رجاء جارودى مليئة بالتقلبات والعواصف؛ فخلال الحرب العالمية الثانية وقع أسير حرب لفرنسا الفيشية فى الجزائر بين 1940 و1942. وانتهى التزامه الشيوعى بأسلوب درامى عام 1970؛ حين طُرد من الحزب الشيوعى الفرنسى على خلفية انتقاداته المستمرة للاتحاد السوفييتى. ومما يُذكر فى سيرته أنه أصدر، بعد مجازر صبرا وشاتيلا فى لبنان، بيانا تنديديا بصحيفة «لوموند» الفرنسية بعنوان «معنى العدوان الإسرائيلى بعد مجازر لبنان» بمعية الأب ميشيل لولون والقس إيتان ماتيو. نال جائزة الملك فيصل العالمية سنة 1985 عن خدمة الإسلام؛ وذلك عن كتابيه «وعود الإسلام» و «الإسلام يسكن مستقبلنا». ذلك هو روجيه/رجاء جارودى الذى يجسد -فى تقلبات حياته الفكرية والسياسية، ثم فى سكونه وهدوئه واقتناعه بالإسلام وتحوله إليه شارحا له مدافعا عنه- سيرة مفكر سياسى وفيلسوف معاصر حرّ الإرادة، صادق الكلمة، شجاع الموقف، رغم ما عاشه وتحمله من أزمات. من العدد الأسبوعي ل"الشعب الجديد"