هل لنا أن نتذكر من صلاح عبد الصبور فى «ليلى والمجنون»: يا أهل مدينتنا.. انفجروا أو موتوا.. رعب أكبر من هذا سوف يجيئ!"؟! وأن نتذكر قصائد أخرى لشعراء تمنّوا الثورة أو تنبئوا بها وأنذروا وآخرين عاشوا وقوعها مقدما فى أعملهم؟! لسوف تضيق المساحة عن احتواء ما يمكن أن يقال.. فلنكتف إذن بواحدة أو أكثر من أهم النماذج الشعرية الغاضبة والرافضة والمتمردة التى كتبت ونشرت فى أوج سطوة الطغيان. وهى قصيدة الشاعر حسن طلب «مبروك مبارك» كمخاطرة قيل عنها يوم نشرت إنها جنونية. وبالتأكيد حاق بصاحبها «المندفع المخاطر» مما يكره الكثير؛ فهل كان المستبد يقرأ الشعر أم أنه قد قرأ له وشرح؟ بالتأكيد فهمه أو فهموها؛ لأنها كتبت بأقصى ما يمكن للبساطة المبدعة أن تصاغ ولنقتبس منها مرغمين نزرا يسيرا يقول: وسيمضى الوقت.. نعم بالتأكيد سيمضى.. وستكتب أنت بنفسك.. خاتمة سلالة حكام العسكر.. لا بد ستصبح آخر حصرمة فى العنقود.. وبأيديك تجىء نهاية هذا العصر المنكود!.. هذا اليوم سيأتى.. حتما لا بد سيأكلك ويأكلنا الدود.. وستبرأ مصر من العنة.. لن يبقى فى تلك المحنة.. غير اللعنة.. تنصب على ذكراك.. وتذكار ثلاثين من الأعوام السود.. هذا اليوم سيأتى أسرع مما تتوقع! هل هذه «ضربة الحدس» التى وصفها فرنسيس برجسون أنها يمكن أن تكون بديلا عن النظريات مائة عام أو تزيد؟ وهل كان ما كتبه أو غامر به أحمد فؤاد نجم ولحنه وغناه الشيخ إمام كى يصبح أكثره «مارسيليز مصرى» مفتتحا للغضب والتمرد وإنذارا بالثورة وتحريضا للشعراء الحقيقيين على القول دون خشية والمغامرة حتى ولو كانت غير مأمونة العواقب؟ يقول نجم فى قصيدته «النعمة فاقت حدها» مخاطبا الرئيس المخلوع فى لهجة تهكم حاد لكنه مفعم بمرارة قاسية مثلما حملتها قصيدة حسن طلب السابقة ولكن فى لغته الشعرية السهلة المميزة بعاميتها الجزلة المعتادة مطلعها: نظرا لأن النعمة فاقت حدها.. ولأننا مش قدها.. ولأن فعلا إنجازاتك.. فوق طاقتنا نعدها.. ولأننا غرقنا فى جمايل.. مستحيل حنردها.. نستحلفك.. نسترحمك.. نستعطفك.. نستكرمك.. ترحمنا من طلعة جنابك حبتين.. عايزين نجرب خلقة تانية ولو يومين! ولأن المرارة قد فاضت فقد تحول كثير من قصائد الشعراء إلى ذلك الخطاب المباشر، مغامرين بتوجيهيه للطاغية سواء بالعامية أو بالفصحى إذ لم تعد تجدى الإسقاطات ولا ارتداء مسوح الشخصيات التاريخية أو أقنعتها أو ما يسميه ت. س. إليوت «الصوت الثانى للشاعر» تواريا من السلطة واتقاء لشرها؛ فها هو فاروق جويدة فى قصيدة طويلة مليئة بالتهكم المر أيضا هى الأخرى بعنوان «الأرض قد عادت لنا» يكتب: من الفلاح الفصيح إلى فرعون مصر: يا سيدى الفرعون.. هل شاهدت أحزان المدينة؟.. الناس تصرخ من كهوف الظلم.. والأيام موحشة حزينة.. ومواكب الكهان تنهب فى بلاطك.. والخراب يدق أرجاء السفينة.. والموت يرسم بالسواد زمانك الموبوء والأحلام جاحدة ضنينة. نعم، لقد كتب كل بطريقته قبل وقوع الحدث الهائل النبيل وأرهص كل منهم بقدر ما يطيقه من إرهاص، أو صرح بما يمكن أن يتحمله من جراء التصريح فلم يصمت الشعر، ولا فضت أفواه الذين هم شعراء. لكن شعرا آخر جديدا كتبته الثورة أو نفثته على لسان الكثيرين الصادقين الحقيقيين منهم.. شعرا بدأت بشائره فى الظهور من قبل لحظة سطوعها النهائى فى تاريخها الموعود؛ حين قرر نفر من الشعراء أنهم لم يعد أمامهم ما يخافون منه أو يتقوه رغم وجوده بالفعل فغامروا ممهدين للثورة متنبئين بقرب سطوعها بألسنة شعرية متباينة؛ إذ استهوى كثيرا منهم خطاب الحديث المباشر نفسه المغمور سخرية واستخفافا بالمستبد مثل «عبد الرحمن يوسف » فى قصيدة طويلة « آنية» ذات نفَس تقليدى متدفق، بعنوان «الطريدة» ويستهلها بآيات تسع عمودية فى مفتتح كلاسيكى يقول: «حى الشعوب تقود اليوم قائدها.. تزيح ظلمة ليل كى ترى غدها» ثم ينتقل متحولا بها إلى مقاطع يبدأها دائما بشطر موحد متكرر كى ينطلق بتساؤلاته المستنكرة يوجهها إلى الذى لا يريد أن يفارق العرش إلا أن يورثه لابنه: ماذا بربك تنتظر؟!.. أن يصدر الرحمن أمرا بانتدابك فوقنا رغم الثمانين التى قد بلغتها؟!.. أن يكسر الثوار بابك؟! حينها هيهات تقدر أن تمثل فوق شاشات القوادة دور غلاب العباد المنتصر» ولا يخفى ما تحتشد به الأبيات على مدار القصيدة من ثقافته التاريخية العربية والإسلامية يضمنها ويناص بها كى يزيدها جزالة تقليدية وخطابية يتعمدها باعتبارها قصيدة ثورة، وليستمر الدفق الشعرى عنها ومن أجلها بأشكاله وصياغاته المتنوعة الثرية موجها إلى الشهداء فى قصائد كثيرة منها «تراتيل الغضب» المهداة من الشاعر «أحمد سويلم» إلى أرواحهم، بادئا بمدخل مختلف يدلف منه إلى يبرر الثورة فيمنطقها ويبررها كضرورة بقوله: «للشعر مذاق الحكمة.. عند الشعراء وللخبز مذاق آخر فى أفواه الفقراء.. وللأشرعة البيضاء مجاديف يناولها موج البحر.. وللسفاحين الخوذات السوداء.. ومتاريس القهر.. وأدخنة الدمع الخانقة.. ودانات القتل». ثم ينفجر «سويلم» معلنا عن الحدث الكبير قائلا: «اليوم.. تخلى الشعراء عن الحكمة.. ار الخبز مذاقا مرا فى الأفواه.. صارت أشرعة البحر بلا مرفأ.. إلا فى أفواه المهمومين بجمر القتلة.. يا أم الأبناء المحمولين على نعش الموتى.. ماذا يجدى دمعك فى لغة.. فقدت بالأمس طزاجتها.. واستشهد فى ساحتها من يعشقها.. فحنت فوق الجسد الدامى.. تغرقه همّا ونواحا؟» (يتبع)