فى فيلمه المتفرد «المومياء» وضعنا الراحل الكبير «شادى عبد السلام» أمام حالتين تطمح كل الأعمال الفنية العظيمة إلى تحقيقهما؛ وهما حالة الكشف وحالة التنبؤ: أما الكشف فهو قراءته ذلك الواقع المخيف الذى أعلن عن نفسه فجأة – دون أن ينتبه له أحد سوى عينه الفاحصة وبصيرته الحضارية الحادة - عندما قرأ فى ا لصحف خبرًا مفاده أن بعض سكان الجبل فى صعيد مصر يبيعون ما ينبشون عنه باطن القبور ويستخرجونه من مومياوات يحملونها إلى تاجر آثار أرمنى ليسرّبها إلى تجار الآثار الأوروبيين كى تحتل متاحفهم بأبخس الأثمان!. إلى هنا.. والحكاية تبدو شبه عادية؛ فما من يوم يمر بغير سرقة بعض آثارنا أو محاولة لسرقتها. يثبت ذلك بالفعل ما تطالعنا به الصحف وتفاجئنا به الضبطيات البوليسية من جرائم متجددة، لا يعلم إلا الله واللصوص وأعوانهم ومن يتسترون عليهم، كم هى فادحة وكم هى مستمرة ودءوب! لكن الجديد بالفعل كان ما لمحه شادى عبد السلام من مشهد النسوة الصعيديات وقد وقفن فى ملابس الحداد السوداء صفين متوازيين، نائحات بأعلى صوت وكأنهن يشيعن فقيدًا غاليًا يرحل عن الجبل حيث يعيشون؛ وليس مجرد أجساد ميتة لمجهولين أخرجها رجالهم من مقابر تضمهم مع ما تضمه من كنوز لكى تباع مهربة لقاء ثمن بخس يتقاضونه من القراصنة الأجانب! لكن عين الفنان الفاحصة لم تكن لتترك مثل ذلك المشهد يمر دون أن يُحدث فى قلبه وعقله جرحًا ينبهه إلى أن هؤلاء الأموات ليسوا سوى أجدادنا. كما أن نابشى القبور هؤلاء هم بعض أحفادهم، وقد تغلبت فيهم اللصوصية على تأثير ذلك «اللاوعى الجمعى» النبيل. والذى يستقر فى وجداننا - ونتوارثه جيلًا بعد جيل - فينعش انتماءنا ويحيى عظامنا الوطنية بعد موتها. كما أنه هو الذى ينهضنا بعد كل كبوة وينصرنا بعد كل هزيمة و يعيد إلينا الثقة كلما أصبحنا ضائعين! لقد التقط شادى عبد السلام بعبقريته تلك الحادثة الواقعية حين قرأها فى الصحف فشعر بما لم يشعر به القارئ العادى من مجرد الاشمئزاز من الفعل الهمجى أو الحسرة على ضياع المشاعر الإنسانية. لكنه قرأها بعين أشد فحصًا وأكثر نفاذًا فرأى أن ضباع الجبل هؤلاء لم يشعروا بمثل ما شعرت به نساؤهم من حزن غامض يدفعهن - كلما استخرج رجالهم مومياء جديدة وحملوها إلى شاطئ النيل حيث ترسو سفينة التاجر الأرمنى منتظرة صيدها الثمين الذى لا يعرفون قيمته - إلى البكاء والنواح على مجهولين لا يعرفونهم ولم يسمعوا من قبل بهم، وفى مشهد جنازة حقيقية حية لا تقام إلا لأعزاء راحلين، ولا تفيض مشاعر أهلها المشيعين صادرة عن مجرد تعاطف إنسانى معتاد يصاحب مشهد الموت - حيث يكتفى الأحياء بالترحم على الغرباء المفارقين - بل عن ذلك الانتماء الداخلى الموروث. أى عن «لا شعور جمعى» كامن، وجد تجليه لحظة أن أتيحت له إمكانية الظهور!. أما فعل «النبوءة» الذى أحدثه فيلم «المومياء» فقد انطلق متجسدا فى صرخة تحذير وكشف مسبق لما يمكن أن يصير أو يحدث لنا جميعا لو أننا ظللنا نستهين بموروثاتنا من الفن العظيم فننهشها دون وعى مثلما فعل «أهالينا» من سكان الجبل، أو أن نفرط فيها فنبيعها بثمن بخس كما حدث مع «النسخ الأصلية لأفلامنا القديمة»، أى النيجاتيف الذى بيع لقنوات تلفزيونية خاصة يملكها أصحاب الثروات القائمة على نهب تراث الفن والاتجار المربح فيه، ويا ليتهم تركوها دونما عبثٍ بها أو تشويه - مثلما حافظت المتاحف الأوروبية وأصحاب المجموعات الأثرية الخاصة المسروقة من باطن أرضنا عليها وعرضتها وحنت عليها بالرعاية الدائبة والتقدير المطلوب – لكنهم حرفوا فيها وبدَّلوا وقصوا ولصقوا ونسخوا واختصروا ولونوا، متغافلين عن حقيقة أن تلك الأعمال هى جزء من التاريخ لا يتكرر، وأنها يجب أن تظل على حالها لأن ما يظنونه «تجميل» لها هو جريمة تغيير فى معالمها ومسخ لواقع تاريخها يؤدونه ك«ضباع» أصلاء تعبث ببعض هذه الأفلام والمسرحيات فتشوه شخصياتها وتجتثها من موقعها فى سياق العمل الفنى، وقد نزعوا عنها حديثها أو حوارها الأصلى القيِّم الجميل وأنطقوها حوارًا آخر تافهًا بحجة مخالفته للأخلاق والعرف الاجتماعى الذى أصبح سقيمًا مرتدًّا ناكصًا بفعلهم! والحقيقة أنهم يتمسحون بالدين ويتقنعون بالأخلاق والعرف، بينما لا يهمهم سوى البيع والتربح حتى ولو اعتدَت على عقولنا ونهشت تاريخ شعبنا المدون فى «الفن»، والذى هو تاريخ أفراحه وأتراحه، مثلما هو تأريخ للدمعة وأسبابها وللضحكة ومناسباتها و«النكتة» وظروفها ومسبباتها، والذى يمثل أغنى السجلات الاجتماعية والأخلاقية والسياسية فى تاريخ حياة هذا الشعب؛ ويحتاجها المحللون والبحاثة والدارسون. كما أن ما يقوم به بعض الناشرين – أو ارتكبوه به بالفعل – من تغيير فى نصوص كتّاب مثل نجيب محفوظ وغيره من الأدباء العرب الراحلين، أو من تحريف وحذف لبعض ما حملت به أعمالنا الأدبية الشعبية - مثل ألف ليلة وليلة - من كنوز لا يفهمون من سياقاتها ودلالاتها أو ما يمكن أن يفهم ويستخرج منها سوى الظاهر الساذج، ولا تقع أعينهم فيه إلا على ما يظنونه مساسًا بأخلاق مزعومة أو تجرّؤًا على قيم يطنطنون بها، وكذلك ما يجرى من حذف واستبدال لكلمات فى أغنيات فولكلورية موروثة، منها ما شدا به سيد درويش وكتبه شعراء مثل بيرم التونسى وبديع خيرى فى مصر وتغنى به العالم العربى، ولا يزال- بحجة أنه منافٍ للأخلاق أو مخالفٌ للدين، ليس مجرد اعتداء همجى على قلم كاتب مبدع أو سينمائى رائد أو تعديل نصوص ليس لها من أصحاب؛ وإنما هو استهانة فاجرة بتراث استُخلفنا عليه كشعب وتفريط فى أمانة حمّلنا إياها آباء وأجداد صنعوا أدب هذه الأرض ومسرحها وأفلامها، مثلما سجلوا طربها وشجنها وحزنها وأفراحها ومآسيها وقصص هزائمها وانتصاراتها، كما أنهم ليسوا «مشخصاتية» ولا مجرد أدوات للإضحاك أو مهرجين، بل فلاسفة وأصحاب وجهة نظر؛ وطليعة فنية لتنوير عظيم. وإن لم نتنبه ونوقف هذه الهجمة الارتدادية التترية التى لا تعرف لها دينًا غير المكسب ولا وطنًا غير البنك؛ سيقفزون إلى كتبنا ورواياتنا وأشعارنا ومسرحياتنا، ثم إلى أحاديث مفكرينا وكتابنا وزعمائنا ووعاظنا ومفكرينا ونصوص معاهداتنا السياسية وكتب تاريخنا ووثائقنا وآثارنا، فيسطون عليها فى فعل متعمد للتشويه يتجاوز مجرد الكسب المادى إلى مسخ مدروس مخطط، هدفه إصابة التاريخ والحضارة والفكر والوعى والفن على مساحة هذا الوطن ودون استثناء! ومن يدرى.. فربما تجاوزوا أكثر فوصلوا إلى أوراق العقيدة والصحائف المقدسة للدين، مثلما دسوا على الأحاديث الشريفة وطبعوا من القرآن الكريم نسخًا محرفة. إنه السرب المتوحش للضباع الجدد، ولن ينقذنا منهم سوى «الوعى» الذى يعقبه «فعل». رحم الله «شادى عبد السلام» صاحب الكشف وصاحب التنبؤ وصاحب أول صيحة للتحذير!. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة