كعادتها الأسبوعية، توجهت نادية عبد الرحيم حسن إلى صاحب مدبغة الجلود التى تعمل فيها بمنطقة "مكس" الإسكندرية، لتتقاضى أجرها البالغ 150 جنيهًا، إلا أنها فوجئت بمالك المدبغة يغلقها بحجة عدم وجود سيولة مالية لصرف مرتبها ومرتبات زملائها، خاصةً بعد قرارَى وزير الصناعة الأخيرين بحظر تصدير الجلود المصرية إلى الخارج وإلغاء نظام ال"دور باك الجمركى". تجولت نادية بين شوارع منطقة المدابغ ووجدت أن الأمر لم يقتصر على المدبغة التى تعمل بها، بل امتد الأمر إلى باقى المدابغ. ((ربع كمية الجلود المدبوغة مكدسة فى المخازن)) تذكرت حديث أصحاب المدابغ أثناء اجتماع عقدوه بمكتب صاحب المدبغة التى تعمل بها، الذى سمعته منهم أثناء تقديمها الشاى لهم؛ حين أوضح عفت نسيم مالك مدبغة "الأمير" المجاورة لهم أن ما يُذبَح من ماشية فى أنحاء مصر مليون رأس من الأبقار والجاموس، عدا 500 ألف رأس غنم، وأن نسبة 25% من جلود تلك الكمية تكفى احتياجات السوق المحلية وقد تغرق مصانع وورش تصنيع الجلود، وأن باقى الإنتاج يركد فى المخازن الخاصة بهم، ولا يجدون من يشتريها سوى السوق العالمية، فيصدر أكثر من 75% من الكمية. كما تذكرت نادية قول محمود عبد المجيد إبراهيم إن من يعملون بصناعة دباغة الجلود يقدرون بأكثر من مليونَىْ فرد بين عمال وأصحاب مدابغ، وهى صناعة تكاملية تعتمد عليها صناعات أخرى، وتدر على البلاد دخلاً قوميًّا يقدر بمبلغ مليارَىْ جنيه سنويًّا، ويعتبر ثانى دخل للبلاد بعد تصدير القطن؛ إذ إن السعر العالمى للقطعة الواحدة يقدر بمبلغ 450 جنيهًا. وعندما استفسرت نادية عن آلية توقف المدابغ بعد إصدار قرار الوزير رقم 304 لسنة2011 بشأن حظر تصدير الجلود الخام والمدبوغة بحالتها الرطبة، وعن المستفيد الرئيسى من ذلك القرار؛ أوضح لها محمود عبد المجيد أن عملية التصدير قُصرَت على منطقة قوسنا الحرة؛ الأمر الذى أجبر أصحاب المدابغ الأخرى على وقف شراء خامة الجلد؛ لأنهم لن يستطيعوا تصديرها ولا بيعها للسوق المحلية فتعطلت تلك الصناعة. ((أسعار احتكارية وإجبارية)) وأضاف عبد المجيد: "وهو الأمر الذى ولَّد عملية احتكارية للمهنة، فصار سعر جلد الخام "سعرًا احتكاريًّا" قدره 150 جنيهًا للقطعة؛ لأنه لا مشترى غير قويسنا. وبحسبة بسيطة تجبره الدولة على دفع مبلغ 20 جنيهًا عن القطعة عند دخولها المنطقة الحرة ودفع مبلغ 50 جنيهًا على نفس القطعة عند خروجها من المنطقة الحرة، فصارت التكلفة التى تتحملها منطقة قويسنا تقدر بنحو 220 جنيهًا هى حصيلة جمع المبالغ المذكورة. وبما أن السعر العالمى يقدر بمبلغ 450 جنيهًا ففرق الاستفادة قدر بمبلغ 230 جنيهًا فرق السعر العالمى والاحتكارى، هذا عدا مبالغ دعم التصدير التى تدفعها الدولة للمصدرين لتشجيعهم. كما اقتصر التصدير على المرحلة الثانية لتصنيع الجلود "الكراست"؛ ما يضع على كاهل المدابغ الصغيرة والمتوسطة أعباء مالية كبيرة؛ لأن استيراد ميكنة تلك المرحلة يكلف عشرات الملايين من الجنيهات، وأكد أنهم على استعداد تام لتنفيذ مرحلة "الكراست" بشرط منح الدولة قروضًا ميسرةً لإمكانية شراء ماكينات تلك المرحلة، خاصةً أن عدد المدابغ التى تصدر تصل إلى نحو 40 مدبغة على مستوى الجمهورية من أصل 600؛ منها نحو 25 مدبغة بالإسكندرية فقط. سبق كل ذلك عقد جمعية عمومية لشعبة دباغة الجلود بغرفة الصناعة عُرض فيها وقف تصدير الجلود لمدة عام. ورغم أن أعضاء الجمعية العمومية يبلغ 600 عضو، لم يحضر سوى 89 عضوًا؛ 55 منهم اتخذوا القرار بوقف التصدير؛ منهم هشام جزرة صاحب منطقة قوسنا الحرة، فيما رفض الاقتراح 34 عضوًا. ((المنتجات الصينية سبب ركود سوق الجلد الطبيعى)) أكد محمود عبد الفتاح محمد صاحب مدبغة 7 نجوم بالمكس، أنهم لا يعارضون تطبيق قرار الوزير، لكن بشرط وقف استيراد منتج الجلد الصينى الصناعى بأى قرارات للإغراق أو زيادة الضريبة والجمارك على المستورد منه؛ لأن المصانع والمعارض داخل البلاد لن تجد أمامها غير المنتج المصرى فيستطيع ملاك المدابغ بيع الخام الراكد الموجود بالمخازن رغم أن المدابغ تبيع خام الجلد للمصانع بأجل فى السداد قد يصل إلى عام 2013. ورغم ذلك عدد المصانع الكبرى لا يتعدى 5 إلى 6 مصنع على مستوى الجمهورية والباقى ورش صغيرة، كما أضاف محمود عبد الفتاح أن أصحاب المعارض عليهم عامل كبير فى ركود بيع الجلود المصرية؛ إذ يعتبر منتج الجلد المحلى من حذاء أو حقيبة رخيصًا نسبيًّا، وقد يقل عن سعر المنتج الصينى، لكن صاحب المعرض قد يضع سعر بيع عليه يرتفع بمقدار 3 أضعاف سعر توريد الورشة إليه. وعن وجود جهات رقابية على المعارض أشار محمود عبد الفتاح إلى أنه كان يوجد ما تسمى "لجان الرقابة الصناعية" فى ستينيات القرن الماضى؛ حين كانت تمر على المعارض لمراقبة جودة المنتج ومنع وضع معروضات غير محلية أو جلود صناعية تضر بالصحة العامة، لكن تلك اللجان اختفت حاليًّا. وقتها تذكرت نادية معلومات كانت قد قرأتها عن أضرار الجلد الصناعى؛ إذ سبق أن حذر رئيس غرفة الصناعات الجلدية فى اتحاد الصناعات المصرية يحيى سعد زلط من شراء المنتجات الصينية، خصوصًا الجلدية منها؛ لما تتركه من آثار سرطانية على الجلد البشرى؛ لاحتوائها على مواد كيميائية تسبب قروحًا وحروقًا. وذكر رئيس الغرفة أن المملكة العربية السعودية كانت قد أعلنت عن ظهور التهابات جلدية قد تؤدى إلى السرطان نتيجة استيراد شحنات من الأحذية الصينية، كما أن الأمريكيين شكوا، فى العام الماضى، في الإصابة بحروق بسبب ارتداء أحذية صينية مصنوعة من المطاط. وقال رئيس الغرفة إن الأسعار الرخيصة ساعدت على رواج هذه المنتجات فى مصر رغم ما تسببه من أمراض سرطانية، وهو ما دعا منظمة الأغذية والأدوية الأمريكية إلى وقف استيراد الأحذية الصينية. ((المدابغ تعالج الأمراض الصدرية والجلدية)) أثناء جلوس نادية أمام دارها بمنطقة الورديان، تفكر فى الحال التى وصلت إليها تلك الصناعة، قاطعها عم على شمندى جارها الذى بلغ من العمر 70 عامًا وكان يعمل فى صناعة دباغة الجلود منذ نعومة أظافره؛ أنه كان يوجد خامات طبيعية أغلبها مستحضرات نباتية تستخدم فى دباغة الجلود مثل "البلموط، والإكسيرا (مادة يدخل فيها دم الحيوان) ومادة موجودة حتى اليوم لدى العطارين تسمى العرض، وشجر السنط، وزبل الحمام، وكان أطباء الأمراض الجلدية والصدرية يطالبون مرضاهم بالذهاب إلى منطقة المدابغ نوعًا من أنواع العلاج، بالإضافة إلى وصفات شعبية مثل تعاطى مادة البلموط لمنع الإسهال، لكن غزو المنتج الصينى أدى بطريقة غير مباشرة إلى ارتفاع أسعار المواد الطبيعية، ومن ثم فرضت المواد الكيماوية على الصناعة لرخصها النسبى. ((هل قرارات الوزارة لزيادة الأيدى العاملة؟)) لم تَكْتَفِ نادية بالمعارضين لقرار الوزير، بل حاولت استقصاء الأمر من المؤيدين وأسباب التأييد، فأخبرها عاطف السيد محمد صاحب إحدى المدابغ بالمكس أن المرحلة الأولى هى عبارة عن غسيل للجلد "الويت بلو" أو الكروم. وتعتبر المرحلة الثانية "الكراست" نظرة إلى المستقبل؛ إذ ستؤدى إلى زيادة العمالة بمقدار 5 أضعاف، وبدلاً من تصدير 10 "كونتر" مرحلة أولى سيصدر 2 كونتر مرحلة ثانية؛ الأمر الذى سيؤدى إلى زيادة جلود المرحلة الثانية للسوق المحلية ويؤدى إلى تنافس فى الجودة الصناعية. واتصلت نادية بيحيى زلط رئيس شعبة صناعة الجلود الذى أوضح أن قرار الوزير تضمن حظر الجلود المصنعة مرحلة أولى "جلد منزوع الشعر"، واستبدال تصدير جلد كامل التشطيب به، مؤكدًا أن هذا القرار يصب فى صالح 3 قطاعات؛ هى: قطاع صناعة الجلود؛ لأن صناعة الجلود ستنتعش فيدخل الصناع فى ساحة المنافسة فى السوق المصرية بالجلد الطبيعى الذى يصنعوه؛ ما سيرفع قيمة الصناعة المحلية. والقطاع الثانى هو الدباغة؛ لأن التصدير سيكون للجلد كامل التشطيب الذى يحمل 65% قيمة مضافة؛ ما سيزيد قيمة العمالة المحلية أيضًا. والقطاع الثالث هو المستهلك لمصرى الذى سيستبدل بالجلد المصنوع الجلد الطبيعى عالى الجودة. وأضاف زلط أن هذا القرار وضع قيودًا على المناطق الحرة وتفتيشًا على الحاويات الخاصة بقطاع الجلود فى الساحة الجمركية؛ وذلك بالتنسيق مع لجنة مُشكَّلة من الغرفتين، فضلاً عن أن هذا القرار خفض سعر الجلود من 450 إلى 230 جنيهًا. كما اتصلت نادية بحمدى حرب رئيس غرفة دباغة الجلود الذى قال إن هذا القرار جاء بناءً على رغبة الجمعية العمومية لقطاع دباغة الجلود، وأقره الوزير؛ لأنه يرفع القيمة المضافة. وأضاف حرب أن هناك تحفظات تعتبر من عواقب تنفيذ هذا القرار خاصةً بالمدابغ التى تعمل تحت نظام السماح المؤقت فى المناطق الحرة؛ لأن هذه المناطق لها حزمة حوافز واستثمارات ضخمة تتمتع بها عن قطاع الصناعة القديمة؛ منها أنهم لا يدفعون قيم ضرائب وجمارك ورسوم، متسائلاً عن تساوى القطاعين فى النهاية رغم منح أحدهما كل هذه المميزات عن الآخر. وأعطى حرب مثالاً لمدبغة قويسنا التى تعتبر ضمن المناطق الحرة، ولها كل المميزات من إعفاء من الرسوم والجمارك والضرائب، بالإضافة إلى أن الوزير يسمح لها بأن تستورد خاماتها من السوق المحلية بنسبة 80% بما يخالف القانون الذى نص على أنها تستورد خاماتها من السوق الخارجية؛ ما يزيد الضغط على السوق المحلية بنسبة كبيرة. وأشار حرب إلى أنه بعد تطبيق هذا القرار فى ظل بقاء الوضع كما هو عليه، فإن قطاع الصناعة القديمة سيعانى حالة ركود؛ الأمر الذى اضطر شعبة دباغة الجلود إلى إرسال هذه التحفظات إلى الوزير، فكان رده أنها ستدخل فى حيز المناقشة. ((عدم مرعاه البعد الاقتصادى والاجتماعى)) وعن ماهية القيمة المضافة والجدوى الاقتصادية العائدة على البلاد بعد قرار الوزير، أكد لها أحمد الحصرى (دكتوراه فى فلسفة الاقتصاد) أن القيمة المضافة هى القيمة الاقتصادية التى تنتج عادة من إدخال صناعة معينة أو مرحلة معينة على الصناعة الأصلية. ويضيف الدكتور أحمد الحصرى أنه فى حالة صناعة المدابغ فإنه يجب مراعاة الحالة الاقتصادية التى تمر بها البلاد خلال الظروف الحالية التى قد تؤجل أى قرارات حتى الاستقرار السياسى والاجتماعى.
وأشار الحصرى إلى أنه بمقارنة كمية ما يُصدَّر من جلود مرحلة أولى مع ما سيُصدَّر من نفس جلود مرحلة ثانية "كراست"؛ نجد أن الكمية ستقل، ومن ثم السعر سيزيد. قد نجد أن العملية الاقتصادية متوازنة، مع مراعاة أن المصدر قد يقع تحت نير معايير الجودة للدول التى تُصدَّر إليها، خاصةً أن الأيدى العاملة المصرية لمرحلة التصنيع الثانية لم تصقل مهارتها.
حاولت نادية استقصاء الأمر من الناحية القانونية، فانتقلت إلى مكتب على القسطاوى المحامى الخبير القانونى فى شئون صناعة دباغة الجلود الذى أكد لها أن الفقرة الثانية من المادة 3 من القانون رقم 68 لسنة 1975 بشأن التصدير والاستيراد تنص لوزير التجارة على أن يقصر التصدير إلى بلاد الاتفاقيات وتصدير سلع أساسية على القطاع العام، ومن هنا فإن الأصل هو حرية تصدير البضائع، ولا يجوز للوزير قصر التصدير على شخص بعينه ولا على منطقة حرة بعينها، بل يحق له أن يقصر تصدير سلعة معينة على القطاع العام فقط، ولا يجوز التوسع فى قصر التصدير ليشمل أشخاصًا أو شركات معينة أو مناطق حرة. ومن هنا فإن قرار الوزير قد جاء مخالفًا للقانون. الموقع غير مسئول قانونا عن التعليقات المنشورة