الحركة الإسلامية المغربية مجلس الإرشاد العام عقب البروز المفاجئ للصحوة الإسلامية المغربية المعاصرة في أوائل سبعينيات القرن الماضي، وما شاب علاقتها بالدولة من جهة، وبالكيانات السياسية المخالفة يسارية ولبرالية من جهة أخرى... وعلى إثر الأحداث المؤلمة التي تعصف ببلادنا حاليا... ونظرا للتطور الذي آل إليه الحال ببروز تيارات تتخذ العنف وسيلة للتعبير و التغيير، استنبتتها ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية انتهكت بها الأعراض، واستبيحت الحرم، واستطالت بها على الأمة نخبة فاسدة لا قيمة عندها للمواطنة أو المصلحة المشتركة أو أخوة العقيدة أو الدم، مما أفرز في مجتمعنا أعضاء منه يؤثرون الموت على الحياة، سواء كان هذا الموت في قوارب الهجرة أو لفائف الأحزمة الناسفة أو توابيت الدعارة الرسمية والمخدرات المشاعة. عقب كل هذه المحبطات استبشر عقلاء الأمة ببروز نزعة إيجابية للحوار بين الأطراف المتنازعة والاتجاهات المختلفة، حقنا للدماء المهدرة، وجمعا لشمل الأمة الممزق، دولة وأحزابا وتيارات، واستعادة لولاء فئة همشت وأقصيت فثارت وتمردت. هذه الدعوة للحوار ما زالت لحد الآن لدى جميع الأطراف محتشمة خجولة، غائمة مترددة، يعتورها الغموض واللبس، والإعراض عن الغوص في حقيقة جوهرها وشروطها وغايتها، وتعرقلها محاولات الاستبعاد والتيئيس من جدواها، أو محاولات الإجهاض والتوظيف للمصالح الانتخابية والانتهازية، التي لا تصب في المصلحة الوطنية العامة بأي صفة من الصفات. لذلك نرى واجبا توضيح أمر الحوار هذا، بما يحدد أطرافه ويبين طبيعته، وشروط قيامه ومدى الحاجة إليه والجدوى منه، وتوفر شروطه وأركانه، كي تقطع الطريق على خصوم الدولة والدعوة معا، جهات خارجية معلومة كانت أو جهات داخلية معروفة. إن الحوار لدى العقلاء في سائر الأزمان والأمصار أربعة أصناف: حوار مناظرة، وحوار مناصحة، وحوار مغالبة، وحوار مصالحة...فأي صنف هو الأصلح لنا ولأمتنا؟ إن حوار المناظرة باعتباره تعاونا بين طرفين للبحث عن الحقيقة والتوصل إليها، بأن يبصر كل طرف مناظره بما خفي عنه لدى البحث والنظر، يكون عادة حول حدث حاصل مختلف فيه، أو أحداث حاصلة متنازع حولها، وتقتضي إظهار الصواب وإحقاق الحق وإثبات الحجة فيه. ومن شروطه لدى الحكماء تكافؤ الطرفين في العلم والأمن، ولقاؤهما تامي الحرية موفوري الاستقلال، في جو من النقاش الهادئ البعيد عن الانفعال والتوتر والعنف والتعصب، وهو ما ساد مناظرة المهدي بن تومرت مع فقهاء المرابطين بحضور السلطان أبي الحسن علي بن يوسف بن تاشفين ( الاستقصا 2/83 الطبعة الأولى). أما حوار المناصحة فيكون بين طرفين أحدهما عالم بالحقيقة علما يقينيا وواثق منها وثوقا قطعيا، وبين طرف جاهل بالحقيقة، أو علمه بها ظني مضطرب، من أجل تبصيره بها والأخذ بيده بواسطة الاستدلال الصحيح حتى يتضح له وجه الحق وتنقشع عن عينه غشاوة الباطل في جو من المودة والطمأنينة والتآخي والحرية والأمن المشترك لدى الطرفين. أما حوار المغالبة فوسيلته الأولى والأخيرة دائما هي القهر سواء كان هذا القهر من أجل حفظ وضع معين، أو هدم وضع غيره، بالحق أو بالباطل أو بهما معا، أو كان لمحاولة إسكات الخصم والظهور عليه وإجباره على إعلان هزيمته والتنازل عن رأيه وقناعاته، وهو ما مارسته السلطة مبادأة وتمارسه، منذ نِشأة الحركة الإسلامية المغربية بجميع تلاوينها، في سبعينيات القرن الماضي؛ سواء كان هذ الحوار القهري اعتقالات تعسفية واختطافات واغتيالات وأحكاما بالإعدام والمؤبد لأتفه الأسباب، ونفيا وتشريدا للآباء والأمهات والرضع، أو كان شراء للضمائر وتحويلا لضعاف الذمة والهمة من بعض منتسبي الحركة الإسلامية إلى جواسيس فرادى أو جواسيس حزبيين، فكانت النتيجة بروز ما نشكو منه جميعا مما لم ينفع فيه سوط الجلاد ومقصلته، ولن ينجح في استئصاله أو كشفه جواسيس ومرتزقة ظنت الدولة أنها أفلحت في تجنيدهم وترويضهم. وهو أيضا - حوار المغالبة- ما أجابت به بعض الفصائل العنفوانية منذ بروز هذا النوع من الحوار القهري على يد الأجهزة المغربية التي أوغلت في الدماء والأعراض، بما لا يليق بدولة للعقيدة والشريعة أو دولة للحق والقانون. أما النوع الرابع من الحوار فهو حوار المصالحة، ويكون بين طرفين لَبَّسَتْ على أحدهما أو كليهما ظروف معينة، فظلما بعضهما، أو ظلم أحدهما الثاني، وكلاهما ينتسبان للحق بسبب وصلة، ويأخذ كل منهما على الآخر تصرفات لا ترقى إلى مستوى السماح بتمزيق الشمل وفتنة الأمة، وهو ما يشير إليه قول الله تعالى: - وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ (النساء128) - لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ (النساء114) - فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (الأنفال1) - وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا (الحجرات9) - إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (الحجرات10 ) هذا عن الحوار قضية وموضوعا... فماذا عن أطراف الحوار؟ للحوار طرفان هما الدولة والدعوة... الدولة بصفتها صاحبة الأمر في تدبير الشأن العام دنيويا، وفي جواب المسؤولية الأولى عند المحاسبة أخرويا. ولكن من يمثل هذه الدولة في الإفصاح عن طبيعة الحوار ومدى جدية اتخاذ القرار فيه وجدواه؟ واقعيا لم يصدر عن المؤسسة الملكية ما يبين أو يشير أو يومئ إلى أي موقف أو قرار... وزير عدل المملكة يساري معاد لكل اتجاه إسلامي، ويحاول استبعاد الحوار والتيئيس من جدواه وفائدته، بدهاء مفضوح ودبلوماسية غبية، معلنا أنه لم يجد علماء أكفاء يقومون به، فيلغي بمجرد تصريح تلفزيوني دور مؤسسة علمائية ملكية لم تحرك ساكنا عندما احتيج لرأيها في الحوار، ولم تبد حراكا عندما ألغى علمها ووجودها وزير عدل اليسار. وزير شؤون إسلام المملكة صوفي مغرق في صوفيته منغلق في كهف أحلامه، يبدى استعدادا شكليا لحوار لم يضع له آلية تنفيذ أو تطبيق، وربما تصريحه لمجرد رفع العتب عنه، احتسابا لزمن آت، قد يسحب منه الفتات... صحف اليسار الحزبي المدجن وهي لا في العير ولا في النفير، تقتحم الأمر وتشترط للحوار تخلي التيار الإسلامي عن ثوابت دينه وعقيدته، والتزامه بثوابت الإلحاد العلماني وكفريات حداثة فساق الغرب ومخنثيه... متأسلمو أجهزة الأمن المغربية الحزبية ( ينطحون ) موضوع الحوار بمحاولة استغلاله وتوظيفه استخباراتيا وانتخابيا، ناسين أن أمرهم مفتضح، ولا أحد يثق في بيادقهم، أو يكشف وجهه لهم، لأنهم ينقلون إلى مشغليهم بالصورة والصوت، والتأويل والشرح والتفسير... ويكفي أن أغلب المعتقلين الأبرياء من ضحايا تبليغاتهم المغرضة، بل من هؤلاء المعتقلين من سلمهم زعيم المتأسلمين إلى وزارة الداخلية مباشرة ويدا بيد، بعد أن احتلبهم استخباراتيا واستغل ثقتهم الساذجة به ووعدهم بما وعدهم... أما الطرف الثاني المعني بالحوار، والمكمل له موضوعيا وواقعيا، فهو الدعوة الإسلامية ممثلة في الحركة الإسلامية المغربية بكل فصائلها وتلاوينها، معتقليها ومنفييها ومطارديها ومختفيها، لأنها هي التي تؤدي ضريبة مواقفها النصحية للدولة، والتصحيحية للأوضاع والإنكارية للمنكر، ولأن لها ثوابت إسلامية مشتركة مع الدولة عقدية وشرعية لا تتخلى عنها، وهوامش اختلاف معها قابلة للتوفيق والاتفاق، ولئن استدرجت فصائل منشقة أو شاردة إلي حوار المغالبة والقهر الذي ووجهت به من قبل الدولة فما ذلك إلا إفراز ظروف يعرفها الخاص والعام... ولئن لا حظنا محاولات أطراف متطفلة إفراغ الحوار من مضمونه وفحواه، بالتحريض على استبعاد أهم مكونات التيار الإسلامي المعارض، وأركان الحوار المجدي، واختزال الأمر في شخصين أو ثلاثة من المعتقلين يرجى نفعهم أو توظيفهم، فإنما ذلك شطح هوى وتلبيس حرص غبي، لن يخرج الأمة عن دائرة القهر وفتن المغالبة ... ذلك أن قضية العلاقة بين الدولة والدعوة قضية واحدة متكاملة لا تتجزأ ولا تنفصم عراها، وحلها واحد لا يتجزأ ولا يُجْتَزَأ، و الاكتفاء بترقيع ما لا يرقع، وترميم ما لا ينجبر، عبث ننزه عنه طرفي الحوار، وإضاعة للجهد والوقت قد تفرز ما لا تحمد عقباه، وخير للأمة قيادة وشعبا ودعوة علاج الأمر كلا متكاملا، بما يرد الحق إلى نصابه، والعقول إلى صوابها والأمزجة إلى هدوئها. بعيدا عن حوار القهر والمغالبة الذي جربته الدولة منذ سنة 1975، فلم يفرز إلا ما يعلمه الجميع، وللطرفين واسع المجال والاختيار بين أساليب المناظرة أو المناصحة أو المصالحة، وإن كنا نؤثر ما أرشد إليه رب العزة بقوله: (فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ). في: 12 ربيع الثاني 1428ه