محافظ أسيوط: فيضان النيل تحت السيطرة.. ولا خطر على السكان    الوثائقية: اللواء عبد المنعم الوكيل نفذ عملية عبور ناجحة واستولى على خط بارليف    إرث أكتوبر العظيم    محمد كامل يُعلن أول قراراته: الحشد والتثقيف استعدادًا للإنتخابات    المحاسب الضريبى أشرف عبد الغنى: الإرادة السياسية للرئيس السيسى سر نجاح التيسيرات الضريبية    سعر الذهب في مصر.. عيار 21 يقفز والجرام يقترب من 5300 جنيه    لمدة 6 ساعات.. قطع المياه عن هذه المناطق بالجيزة خلال ساعات    استشهاد 13 فلسطينيًا في قصف جوي إسرائيلي على وسط غزة    القاهرة الإخبارية: ترحيب إسرائيلي مرتقب بتهديدات ترامب ضد حماس    وكيل جهاز المخابرات السابق: ما يثار أن مصر كانت تعلم بعملية طوفان الأقصى مجرد افتراء    قائد الجيش اللبناني يزور مقر اليونيفيل ويعقد لقاء موسعا لتعزيز التعاون وتنفيذ القرار 1701    الاتحاد الأوروبي يطلق قواعد موحدة للشركات الناشئة في 2026 لتعزيز النمو    الاتحاد السكندري يقتنص فوزًا ثمينًا من المقاولون العرب    ضبط عنصرين جنائيين لقيامهما بالنصب على عملاء البنوك    منة شلبي تغيب عن مؤتمر "هيبتا.. المناظرة الأخيرة" لأسباب عائلية    وزير الخارجية يثمن مساندة هايتي للدكتور خالد العناني في انتخابات منصب مدير عام اليونسكو    تعرف على فعاليات اليوم الثالث من مهرجان القاهرة الدولي للمونودراما الثامن    إيقاف عرض عدد من المسلسلات التركية.. والعبقري" من بينها    داء كرون واضطرابات النوم، كيفية التغلب على الأرق المصاحب للمرض    تعرف علي موعد إضافة المواليد علي بطاقة التموين في المنيا    «حاجة تليق بالطموحات».. الأهلي يكشف آخر مستجدات المدرب الجديد    وزير الرياضة يحضر تتويج مونديال اليد.. ويهنئ اللاعبين المصريين على أدائهم المميز    محمد صلاح يلتقط صورة تذكارية مع الكرة الرسمية لكأس العالم 2026    البلشي وعبدالرحيم يدعوان لعقد اجتماع مجلس نقابة الصحفيين داخل مقر جريدة الوفد    غلق وتشميع 20 مقهى ومحل ورفع 650 حالة إشغال في الإسكندرية    افتتاح مسجد فانا في مطاي وإقامة 97 مقرأة للجمهور بالمنيا    «طب قصر العيني» تحتفل باستقبال أول دفعة للطلاب بالبرنامج الفرنسي «Kasr Al Ainy French – KAF»    «السكان» تشارك فى الاحتفال بيوم «عيش الكشافة» بمدينة العريش    87 مليون جنيه لمشروعات الخطة الاستثمارية الجديدة بتلا والشهداء في المنوفية    صور الشهداء والمحاربين القدماء بعربات مترو الأنفاق والقطار الكهربائي بمناسبة احتفالات حرب أكتوبر    حكم قراءة سورة الكهف يوم الجمعة... تعرف عليها    هل يجب الترتيب بين الصلوات الفائتة؟.. أمين الفتوى يجيب    «لرفع العقوبات».. حاخام يهودي يعلن رغبته في الترشح ل مجلس الشعب السوري    القهوة بالحليب.. هل هي خيار صحي لروتينك الصباحي؟ (دراسة توضح)    استشاري مناعة: أجهزة الجيم ملوثة أكثر من الحمامات ب74 مرة (فيديو)    نتائج الجولة الخامسة من الدوري الممتاز لكرة القدم النسائية    الإسماعيلي يواصل التعثر بهزيمة جديدة أمام سموحة    أموريم: مانشستر يعيش ضغوطات كبيرة    مبابى لاعب سبتمبر فى ريال مدريد متفوقا على فينيسيوس جونيور    محاكمة سارة خلفية وميدو وكروان مشاكل.. أبرز محاكمات الأسبوع المقبل    تعرف على أنشطة رئيس مجلس الوزراء فى أسبوع    مواقيت الصلاه في المنيا اليوم الجمعه 3 أكتوبر 2025 اعرفها بدقه    الحلو وثروت وهانى شاكر يحيون حفل ذكرى انتصارات أكتوبر بالأوبرا    سبب غياب منة شلبي عن مؤتمر فيلم «هيبتا: المناظرة الأخيرة»    سنوات مع صلاح منتصر..حكايات ملهمة لتجربة صحفية فريدة    الزهايمر.. 5 عادات يومية بسيطة تحمي الدماغ من المرض الخطير    تعرف على آداب وسنن يوم الجمعة    5 قرارات أصدرتها النيابة فى اتهام شاب ل4 أشخاص بسرقة كليته بالبدرشين    اسعار الحديد فى أسيوط اليوم الجمعة 3102025    البابا تواضروس يلتقي كهنة إيبارشيات أسيوط    عاجل- سكك حديد مصر تُسيّر الرحلة ال22 لقطارات العودة الطوعية لنقل الأشقاء السودانيين إلى وطنهم    "يونيسف": الحديث عن منطقة آمنة فى جنوب غزة "مهزلة"    تحريات لكشف ملابسات تورط 3 أشخاص فى سرقة فرع شركة بكرداسة    ضبط 295 قضية مخدرات و75 قطعة سلاح ناري خلال 24 ساعة    المصري يواجه البنك الأهلي اليوم في الجولة العاشرة من دوري نايل    تكريم 700 حافظ لكتاب الله من بينهم 24 خاتم قاموا بتسميعه فى 12 ساعة بقرية شطورة    استشاري تغذية علاجية: الأضرار المحتملة من اللبن تنحصر في حالتين فقط    بالصور.. مصرع طفلة وإصابة سيدتين في انهيار سقف منزل بالإسكندرية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



المشروع الإسلامى.. مائة عام من الحصار
نشر في الشعب يوم 19 - 04 - 2012

بعد سنوات قلائل من الآن تحل مناسبة مرور مئة عام على بدء سقوط(أو إسقاط) دولة الخلافة الإسلامية العثمانية؛ فقد سقطت الخلافة فعلياً بتوريط تركيا في الدخول طرفاً في الحرب العالمية الأولى التي بدأت عام(1332ه) – (1914م) ، ليكون من نتائج تلك الحرب خروجها مهزومة في نهاية عام1918م، وليعلَن إلغاء الخلافة رسمياً عام1924م، وينتهي أمرها بتقسيم تَرِكتِها من الأراضي والبلدان التي كانت مجموعة تحت إدارتها بين الدول الاستعمارية النصرانية.
ومنذ تلك الحرب العالمية وحتى اليوم، هناك ما يشبه الإجماع العالمي على عدم تمكين المسلمين من السعي لاستعادة ذلك الكيان الموحَّد في أي صورة من الصور، سواء كان تجمعاً بقيادة عربية أو أعجمية. ولذلك أُجهِض أيضاً مشروع الشريف حسين(قائد الثورة العربية الكبرى)، وأُخرِج من القسمة؛ لقطع الطريق على أي محاولة للتجمع مرة أخرى. ومن يومها لم يكفَّ أعداء الإسلام على اختلاف أصنافهم عن المطاردة والمحاصرة، بل المقاتلة لكل مشروع(صغر أو كبر) من شأنه استئناف السير في طريق استعادة ذلك الكيان في يوم من الأيام. مع أن قوى الجبروت العالمي التي حَرَّمت على المسلمين هذه الوحدة المشروعة على أراضيها، أباحت لنفسها ولغيرها إنشاء وتثبيت وتوسيع كثير من المشروعات الاتحادية الدولية ذات التوجهات العالمية، على أراضيها وخارج أراضيها. وقد شهد التاريخ المعاصر صوراً متعددة من الكيانات الموحَّدة، مثل: (الاتحاد الأمريكي)، الذي وازاه وتحدَّاه(الاتحاد السوفييتي) ثم(الاتحاد الروسي)، وعُرِف كذلك(الاتحاد اليوغسلافي) و(اتحاد الدول الإسكندنافية)، وجاء(الاتحاد الأوروبي) تتويجاً رسمياً لاتحاد فعلي تكتلت فيه أوروبا «النصرانية» دون أن تسمح لبعض أجزائها «الإسلامية» أن تدخل معها في ذلك الاتحاد، مثل تركيا والبوسنة وألبانيا وكوسوفا!
ومن العجب أن شتات رُفَات اليهود الممزع في العالم- بعد أن ضُربَت عليهم الذلة والمسكنة- ألقيت له حبال الحياة والنجاة، كي يعود تحت رعاية أممية حميمية؛ لينشئ دولة صهيونية تقول علناً: إنها نواة دولة ليهود العالم، تبدأ من فلسطين لتتوسع بعد ذلك من النيل إلى الفرات، ولتنتهي إلى هيمنة أوسع- كما يتوهمون – في صورة مملكة داوود العالمية! والأعجب من هذا أن يتزامن بَدء ذلك المشروع اليهودي «الدولي» مع انتهاء(أو إنهاء) وجود الكيان الإسلامي العالمي في تركيا!
لا أتحدث هنا- بداهة- عن الكيان المنشود منذ عشرة عقود، على أنه مطلب عاجل أو قابل للطرح الآن؛ فالبون شاسع بين الواقع المتواضع والأمل الواسع، ولا أتحدث كذلك عن مطلب سريع بدولة أو عدة دول إسلامية الظاهر والباطن، مُمَكَّنة في الداخل والخارج، فتلك أيضاًً أُمنيَة لم يتأهل الإسلاميون لها بَعْدُ؛ لكني فقط أنبِّه في هذه المرحلة إلى مسار الحصار- بمعناه العام لا الحرفي- وعن مسوغاته وتوقعاته واحتمالاته التي لا تحتمل تغافلاً عن تبعاتها وامتداداتها.
لقد أصبح مجرد تبنِّي فكرة النهوض ب(المشروع الإسلامي) منذ إسقاط الخلافة مسوغاً لحصارٍ ضَارٍ يتعرض له كل من سار في ذلك الطريق؛ سواء كان شخصاً أو جماعةً أو كياناً إسلامياً وليداً في بقعة نائية من الأرض، وهذا يفسر لنا السر الكامن وراء استهداف رجالات وجماعات وكيانات العمل الإسلامي على امتداد الزمان والمكان منذ أُسقِط ذلك الكيان، في سلسلة متواصلة من الحرب المفتوحة التي مارسها أعداء المسلمين في الشرق والغرب، بأيديهم تارة وبأيدي أوليائهم وخلفائهم تارة أخرى. وهي قصة عاشها جيلنا وأجيال قبلنا، ولا بد أن تتحرز منها الأجيال بعدنا؛ لأنها تحكي مسيرة سُنَّة قدرية ذكرها القرآن في قول الله- تعالى- عن أعداء المسلمين: {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: 712]، وقوله: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً}[النساء: 89]. فالقضية خاصة بحرب المؤمنين عندما يتطلعون لتمكين هذا الدين.
إن الحرب التي تعرَّض لها المشروع الإسلامي عبر قرن من الزمان في مختلف الأقطار، والتي نعرف جميعاً تفاصيلها وأطرافها ومراحلها: لا تزال مستمرة، ولن تزال كذلك، وعليه فلا ينبغي للإسلاميين أن يتوهموا أن العالم سيرحِّب بصعودهم السريع والقوي والمفاجئ، ما دام هذا العالم محكوماً بقوى الاستكبار الجامعة لكل عداوات الكفار. ولا شك أن الثورات العربية التي برزت فيها القوى الإسلامية مثلت تحدياً مرعباً لكل الكارهين للإسلام في داخل بلاد المسلمين وخارجها؛ ولذلك فإن تحدي الإسلاميين- الذي ربما جاء غير مقصود- سيقابل – حتماً – بتحديات مقصودة، وعلى العادة المعهودة من محاولات الاحتواء والالتواء، ثم المكر والتنكر، ثم التشنيع على الخصوم وشيطنتهم، تمهيداً لحصارهم ثم إفشالهم. وتطورات الأمور في بلاد الثورات تقول: إن التواصل المعادي والمتآمر بين(الخارج الحاقد) و(الداخل الحانق) من أصحاب التوجهات الليبرالية واليسارية، سيوصل إلى مرحلة من الاستدراج للصدام؛ حتى لا يستوي العود، وتشتد الشكيمة؛ إلا أن يشاء الله شيئاً.
والسؤال هنا: هل تعي بعض قيادات العمل الإسلامي ذلك؟ وهل هناك استعداد لذلك؟ وهل يُعِد الأتباعَ لملاقاة ذلك؟ وهل وضعت في البرامج والخطط احتمالات المواجهة التي يُفتَرَض فرضَها على الإسلاميين، وعلى من خَلْفهم من عامة المسلمين، كما حدث مع جبهة الإنقاذ في الجزائر، ومع المجاهدين القدامى في أفغانستان، ثم مع من جاؤوا بعدهم من الطالبان الأفغان ثم طالبان باكستان، وكذلك ما صار بعد حرب البوسنة، وخلال حرب الشيشان، وما جرى لجماعات السنَّة في العراق، وما ثار بعد نجاح تجربة المحاكم الإسلامية في الصومال، وما دُبِّر إسرائيلياًَ ثم دولياً بعد فوز حماس ثم تمكُّنها في غزة، من حرب ثم حصار لا يزال مستمراً منذ ستِّ سنوات وحتى الآن؟ إن تفاصيل تلك المواقف والأحداث لا تزال ماثلة؛ ولذلك فإن دروسها وعِبَرَها لا ينبغي أن تنساها أو تتجاهلها الذاكرة؛ ولذلك أدعو كل الإسلاميين إلى إعادة استعراض واستذكار واستحضار القواسم المشتركة من تلك الدروس الحديثة، في تجاربنا الإسلامية.
قد يقال: إن الزمن تغير، والأجواء اختلفت، والمعادلات الدولية لن تساعد على التفرد بالمسلمين مرة أخرى... إلخ. والجواب: أن أكثر هذا صحيح، وأن الجبروت الأمريكي والأوروبي على وجه الخصوص في أفول وذبول، ولكن ينبغي التنبه إلى أن الوحش المهدَّد بالخطر، يكون عادة أشرس من الوحوش الآمنة المستقرة. ومع ذلك؛ فلا وجه لتشاؤمٍ مثبطٍ يسيء الظن بالله؛ فبشريات الانتصار والنهوض- بحمد الله- كثيرة؛ ولكن لا مسوِّغ أيضاً لتفاؤل مفرط يحسن الظن بالأعداء، ويجافي الشعور بطبائع الأمور عندما تلوح أمامهم مقدمات قدوم المسلمين، وهم الذين قال الله- تعالى- عنهم: {إن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}[آل عمران: 120]، والذين قال فيهم: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ}[البقرة: 105]. ولهذا قال- سبحانه-: {وَخُذُوا حِذْرَكُمْ}[النساء: 102].
لقد أبرزت أحداث الثورات العربية أن الاتجاهات الإسلامية أصبحت قوة لا يستهان بها في التغيير؛ حيث ظهر أنها تمتلك قوة «الكم» التي إن انضمت إليها قوة «الكيف» لصارت جديرة بحمل مشروع متكامل للتغيير، لا على مستوى المنطقة فحسب، بل على مستوى العالم.
لا يجوز لنا أن نتوقع- تبعاً لما رددته الأوساط الدبلوماسية الغربية – ترحيباً بذلك التغيير الذي لن يكون متوافقاً مع إستراتيجيات هيمنتهم المتوحشة، مهما كان ذلك التغيير سلمياً أو(ديمقراطياً). فالتغيير الديمقراطي إذا صار سُلَّمَا لصعود الإسلاميين في «اللعبة» الديمقراطية، فسيدفع الغربيين وأذنابهم- حتماً- إلى تحطيم ذلك السلَّم، وتكسير تلك اللعبة؛ وبخاصة إذا كان في المقدمة من هؤلاء الصاعدين(سلفيون) هم في تصنيف المعسكر الليبرالي والمعسكر اليساري «متشددون» و «متطرفون»! مهما أظهروا أو تظاهروا بأنهم معتدلين أو وسطيين. وما أمر الجزائر عنا ببعيد.
معركة الإقصاء القادمة في بلاد الثورات، لن تستخدم فيها بالضرورة الوسائل «الإرهابية» القديمة، من سجون ومحاكمات ومطاردات؛ ولكن ستستخدم «تكتيكات» العزل الجماهيري، والتهييج الشعبي، والضرب على وتر الأزمات المعيشية، والضرورات الحياتية، ومشاغبات الأقليات، مستخدِمة وسائل الضغط والتضييق وإثارة الفتن وتشويه الصورة لفضِّ الأنصار وتكثير الأعداء، وستبدأ- والله أعلم- ب «السلفيين»، ولن تستثني في ما بعد «الإخوان المسلمين»؛ ولهذا لا يجور لهذين الفصيلين المهمين من(الجماعة الأم) - أهل السنة والجماعة- أن يلعب أحدهم دور الثور الأبيض والآخر دور الثور الأسود، بل ينبغي لهم وللجميع غيرهم أن يكونوا في مكان ومقام الأُسُود المجتمعة المدافعة عن عرين الإسلام وحمى المسلمين، دون هوان أو عدوان. لا بد من الاجتماع قبل أن تجتمع علينا الأمم، ولا بد الائتلاف قبل أن تختلف في أجسادنا سهامهم.
جاءت ثورات التغيير العربية في أجواء متغيرات دولية بالغة الدقة، يمكن أن تترتب عليها متغيرات إقليمية وداخلية، بعضها يصبُّ في صالح تلك الثورات، ولكن بعضها الآخر يصيبها في مقتل إذا جرى التعامل معها بمنطق الاستهتار أو الاستعراض؛ الذي طالما أضاع فرصاً للنهوض. إن الحصار المفروض منذ مئة عام على المشروع الإسلامي، هو اليوم بصدد الفك أو الكسر، بفضل من الله. ولكن مع ذلك لا بد من النظر إلى المناخ الدولي المحيط كما هو على الأرض، لا كما نتمنى في الخيال، ولا مناص من تحسس مواضع الإقدام أو الإحجام، في التخطيط أو التنفيذ لبرامج مشروعنا الإسلامي الناهض؛ فالحذر وقت الخطر فريضة شرعية طالما جرَّ التفريط فيها إلى كوارثَ ورزايا، مع العلم بأن جزءاً كبيراً من الواقع الدولي والإقليمي الراهن يمكن أن يكون عامل تقوية لمشروعات النهوض الإسلامي في مرحلة ما بعد الثورات، إذا أحسن التعامل معه.
عند التأمل في الأوضاع الدولية المحيطة(التي تحتاج لدراسات معمقة) فسنجد ما يلي:
1- الساحة الدولية: تشهد حالةَ تحولاتٍ أو تجاذباتٍ تنقلها من حالة القطبية الأمريكية الواحدة؛ إلى وضعية قطبيات متعددة؛ حيث تجري الأمور باتجاه هبوط متزايد لظاهرة التفرد والتفوق الأمريكي والغربي، يتوازى معه صعود متزايد لقوى أخرى تنافس أمريكا والغرب في قيادة العالم، أبرزها الصين وروسيا والهند ودول أمريكا الجنوبية واليابان. وهذا الوضع المهدِّد لمخططات أمريكا منذ التسعينيات- بعد سقوط الاتحاد السوفييتي- لمحاولتها الاستفراد بالقطبية الدولية، لن يجعلها تسلِّم بسهولة بتسليم مناطق نفوذها في العالم الإسلامي لألد أعدائها المنافسين، وكذلك لن تفرِّط دول الاتحاد الأوروبي المنكوبة بالأزمات المالية في مناطق الاستغلال التاريخي التي درجت على الوصاية عليها، وبخاصة في دول الشمال الإفريقي التي ستَعُدُّ دول حلف(الناتو) نفسَها منافسة لأهلها في التخطيط لمستقبلها، بما يضمن حصتها من حصاد الثورات، باعتبارها مشاركة في إسقاط بعض النظم.
2- العالم الإسلامي: يشهد فصولاً شبه ختامية من حرب عالمية، أطلقها الأمريكيون منذ عشر سنوات باسم(الحرب على الإرهاب)، وهي التي دلَّت كل الشواهد على أنها لم تكن إلا حرباً على الإسلام؛ بدليل اقتران جانبها العسكري والأمني بالجانب المنهجي الذي أطلقوا عليه(حرب الأفكار) التي لم تستهدف إلا أصول الإسلام الصحيح، وقواعده التشريعية الموسومة عندهم بوصف(الإسلام المتشدد). وهذه الحرب التي شنَّها بوش لم ينهها أوباما، فلم يعلن الأمريكيون انتهاءها رسمياً أو فعلياً، وهو ما يدل على إبقائهم على مسوغاتها، وأهمها التصدي للإسلام الذي منع الغرب من إعلان(نهاية التاريخ) بانتصار الفكر الليبرالي الرأسمالي، هذا الدين الذي وقف أهله ضد التغول الإجرامي للأمريكيين، وأوقفوهم عند حدِّهم، بل هزموهم هزيمة منكرة في كلٍّ من العراق وأفغانستان، وهي الهزيمة التي جعلت أمريكا- ولأول مرة في تاريخها- تسارع السير في طريق الانحدار- وربما الانهيار- جراء الأزمات الاقتصادية الناجمة عن مغامراتها العسكرية في بلدان أسيادها من المسلمين.
هذا التراجع- بكل بساطة- سيؤسس لمرحلة من محاولات ردِّ الاعتبار والثأر؛ وخاصة أن بعداً جديداً قد أضيف لمشهد التصدي لأطماع الغرب، وهو اتساع رقعة المواجهة الحضارية بانضمام قِطاعات واسعة من الشعوب إلى الخيار الإسلامي المتحرر من رِبقَة التبعية والطغيان.
3- الشرق الأوسط:يشهد حالة من الغليان، في مكوناته العربية وغير العربية؛ فالمنطقة على أبواب مواجهة إيرانية غربية، قد يكون لليهود ضلع فيها، والثورات العربية أعطت إيران بعض أوراق المنافسة التي يمكن أن تناور بها؛ حيث من الممكن أن تختار دول عربية أو تضطر للتعامل مع طهران نكاية في الغرب غير القادر عن التخلي عن غطرسته وغروره، وهنا تقع بلدان الثورات بين أمرين أحلاهما مرٌّ: إما استرضاء الغرب أو الارتماء في أحضان إيران كما جرى مع الفلسطينيين في غزة. كما أن النظام العربي نفسه- ممثلاً في الجامعة العربية- غارق في الانقسام بين ثنائية(الثورة ورفض الثورة)، وهذا من شأنه ألا يعزز ما كان يُعرَف ب «التضامن العربي» الذي ستحتاج إليه بلاد الثورات- حتماً- في مواجهة المشكلات المتوقعة في داخلها أو من خارجها. أما دولة اليهود- باعتبارها جزءاً غريباً مغروساً غدراً في(الشرق الأوسط) - فإن الثورات فتحت عليها كلَّ الجبهات، ولا مطمع لديها في الخداع أو الانخداع بأوهام السلام الراحل؛ فالحرب والتهديد بالحرب سيكون أداة ابتزاز واستنزاف، يلوِّح به اليهود بين آن وآخر، لحرمان(بلدان المواجهة) - على الأقل- من التفرغ للبناء، والاستفادة من الاستقرار.
4- الأنظمة الثورية:وهي في مظهرها وجوهرها- حتى الآن- تأخذ الصفة الإسلامية من جهة أن جمهورها من الشعوب انحاز إلى الخِيار الإسلامي. والإسلاميون الصاعدون الآن إلى سدَّة الحكم في بلاد الثورات، يراد إنزالُهم من فوق منصة صدارة المشهد، وهذا ما كاد أن يكون القاسم المشترك الوحيد بين أعداء دعوة الإسلام جميعاً من الكفار والمشركين والمنافقين. والطريق إلى تلك الغاية- لا حقق الله للأعداء غاية- يكون بأحد أمرين: إما أن يفصلوا الشعوب عنهم بعد أن كانت معهم، ببث الفتن الداخلية والخارجية، وإما أن يشغلوهم بأنفسهم وبالصراعات بينهم، وبضرب «المتشددين» ب «المعتدلين» على حدِّ وصفهم، كما حدث ولا يزال في بلدان كثيرة: كأفغانستان والعراق والصومال وغيرها. والمشكلة هنا أن البذور التي يمكن أن تُستنبَت بها الفتن موجودة؛ سواء بين الجماعات الإسلامية التي لم تتخلص بَعْدُ من تَرِكَة الحزبيات والخلافيات التي يرثها كل جيل ليفرِّقها على من يليه، وكذلك فإن الشعوب نفسها لا يطمئن على خلوص اختيارها لأنه صورة(التجريب) للنموذج الإسلامي، ليست هي التي يُعتمَد عليها في الصبر والتصبُّر والرباط على ثوابت الدين؛ وخاصة أن تلك الشعوب لا يزال أمامها شوط كبير من التربية الإيمانية، التي شوهتها المحاضن العَلمانية.
وبعد:فإن قرار الإسلاميين بتصدُّر المشهد السياسي في هذه المرحلة الدقيقة، وقرار الشعوب بإقرارهم في ذلك عن طريق صناديق الاقتراع، هو أشبه بقرار مواجهة شاملة، مواجهة إرث المشكلات الداخلية، وآثار المعضلات الخارجية. إن تبعاته ليست مجرد ترتيب بيت من الداخل؛ وإنما حمايته من المداخل، إنه قرار يحتم على المختارين ومن اختاروهم أن يكونوا على مستوى ما قرروا؛ فالقرار في ذاته ليس خطأ، ولكن الخطأ أن لا تسبقه دراسة للواقع واستعداد للمتوقع. وللحديث بقية، بإذن الله.
أسأل الله أن يلهمنا رشدَنا ويقينا شرَّ أنفسنا وشرَّ أعدائنا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.