ستظل قضية الاستقلال هى محور اهتمام أى وطنى مخلص يسعى إلى تقدم بلده, وعلى مدار التاريخ كانت هذه القضية هى مصدر الثورات على امتداد العالم, ولم تقم ثورة فى بلد من البلدان إلا وكان "الاستقلال" هو الهدف الرئيسى لقيامها, ثم لنهضتها بعد ذلك, ونحن فى مصر كنا نسعى دائما إلى الاستقلال, فكانت ثورات المصريين تتوالى من ثورة عرابى إلى ثورة 1919, حتى كانت ثورة 1952, وكلها كانت ثورات من أجل استقلال الوطن وتحريره من الاحتلال. حتى جاءت ثورة 25 يناير, وعلى الرغم من أن "الاستقلال" لم يكن مطروحا كهدف من أهداف الثورة فى بدايتها, إلا أنه ظل هدفا كامنا فى أعماق كل من خرج مناصرا ومؤيدا لهذه الثورة, من أجل وطنا مستقلا عن الحلف الصهيونى الأمريكى الذى ذقنا مرارة التبعية له على مدار عقود. وعندما بدأت التحقيقات فى قضية التمويل الأجنبى غير المشروع لمنظمات المجتمع المدنى, توسمنا الخير فى ذلك, وقلنا أنها بالفعل مقدمة للاستقلال الذى ننشده, غير أن فصيلا من المجتمع كان يراها قضية لمحاربة منظمات المجتمع المدنى التى أرهقت النظام السابق, ولم يرى هؤلاء أن هذا التمويل الأجنبى كان له من الأهداف غير المعلنة ما لا يتفق والثوابت الوطنية, لكن الجميع كان يغض الطرف عن ذلك فى سبيل استمرار هذا التمويل, الذى كانت أمريكا والدول الأوروبية ضالعة فيه عبر منظماتها التى تمت بشكل غير مباشر لأجهزة مخابراتها. وعندما تم تفتيش مقار المنظمات المتهمة بتلقى التمويل غير المشروع, ثار هذا الفصيل, على الرغم من أن هذا التفتيش جرى بشكل قانونى, وبقرارات من قضاة التحقيق, وتجاهل هؤلاء أن ذلك يعد من أعمال السيادة للدولة, وتنفيذا لمبدأ سيادة القانون واستقلال القضاء, بعيدا عن أى مؤثرات سياسية, وتمنينا وقتها أن يستمر ذلك, وأن تكون هذه الواقعة مقدمة لاستقلال القضاء, واستقلال قراراتنا فى كل المجالات. لكن هذه الأمنيات ضاعت مع أول محك للسلطة التنفيذية فى ممارسة الضغوط عليها, وفوجئنا بقرار يلغى حظر سفر المتهمين الأجانب فى القضية, بل وسفرهم فى نفس اليوم إلى بلدانهم, أو بالأحرى "هروبهم", وهو القرار الذى أثبت أننا ما زلنا أسرى ضغوط الخارج, وأن استقلالنا الوطنى ما زال بعيد المنال, حتى بعد نجاح ثورة 25 يناير, وأن القضاء المصرى ما زال مكبلا ومقيدا بالسلطة الحاكمة, التى انتقلت من مبارك إلى المجلس العسكرى, تكبيلا بالترغيب تارة, والترهيب تارة, فجميعنا رأى فى عهد مبارك كيف للقاضى الذى ينفذ أوامر السلطة التنفيذية فى القضايا ذات الطابع السياسى أن يترقى إلى أفضل المناصب عقب انتهاء فترة خدمته فى القضاء, وتوليه مناصب مدنية عليا فى الدولة. وإذا كان من دلالة فى هذه الواقعة, فهى أننا ما زلنا نعيش عصر الاحتلال, لكنه الاحتلال من الداخل, من داخل أنفسنا, فليس الاحتلال هو احتلال الأرض فحسب, ولكنه احتلال العقل واليقين, وتكبيله بمجموعة من الأفكار, واستسلام العقل لفكرة أنه ليس فى الإمكان أبدع مما كان, وهى الفكرة التى روج لها نظام مبارك على مدى سنوات حكمه, حتى وصلنا إلى المرحلة التى أصبحنا فيها أسرى ونحن أحرار. نحن بحاجة إلى تحرير العقل, وإلى التيقن بحجم الوطن الذى نعيش فيه, وأنه يجب علينا أن يكون استقلالنا الوطنى أهم بكثير من أى شىء آخر, فقديما قالوا: "تموت الحرة ولا تأكل بثديها", وهى حكمة لابد أن نضعها نصب أعيننا بعد إزاحة نظام مبارك وبدأ عهد جديد. لابد أن نعى أننا كشعب نسعى إلى الاستقلال والتحرر من الحلف الصهيونى الأمريكى, الذى لن يكون لنا أى دور إلا بالبعد عنه, وإدراك حجم مصر, والتحرك على أساس أننا دولة هامة إقليميا ودوليا. الاستقلال شرط النهضة يا قوم.. فأدركوه.