من مصر إلى المغرب إلى المملكة العربية السعودية إلى الأردن ومختلف أنحاء العالم العربي، وربما الإسلامي أيضاً، لم تعد حكاية الإصلاح والديمقراطية التي برزت عقب هجمات الحادي عشر من سبتمبر واردة في البرنامج الأمريكي، وهي رسالة وصلت على ما يبدو إلى جميع الأنظمة المعنية، من دون أن يعني ذلك توقف واشنطن عن سياسة استخدام ملف الإصلاح والديمقراطية وحقوق الإنسان في سياق الضغوط على هذا النظام أو ذاك في حال تلكأ في دفع استحقاقات مطلوبة في الداخل والخارج، ما يعني أن الوضع قد عاد إلى ما كان عليه قبل مرحلة المحافظين الجدد في الولاياتالمتحدة، وقبل ما عرف ببرنامج الشرق الأوسط الكبير، عندما كانت الدوائر الأمريكية تستخدم الملف المشار إليه موسمياً، لاسيما في ما يتعلق بالأقليات وبقوى المعارضة الداخلية والخارجية.
لم يحدث التحول الجديد بمحض الصدفة، مع العلم أننا لم نقتنع منذ البداية بأن برنامج الإصلاح قد غادر مربع الابتزاز ليدخل مربع الانحياز الأيديولوجي، وقد جهرنا بذلك عند اندلاع موجة الحوار مع الإسلاميين، وما ترتب عليها من ممارسات وصلت حد ذهاب البعض شرقاً وغرباً في سياق لقاءات لم تكن سوى حفلات تعارف ومحاولات اختراق، بينما كان البعض يبيعها على أنها فرصة حقيقية للإسلاميين جاءت عقب اقتناع الإدارة الأمريكية أن هذه الأنظمة غير قادرة على الدفاع عن مصالحها في المنطقة، وأن الأفضل لها أن تتعامل مع القوى الحقيقية في الشارع، مع ما ينطوي عليه هذا الكلام من إساءة للنفس، إذ كيف يمكن أن تكون القوى الإسلامية أفضل للمصالح الأمريكية في وقت نعلم الروح الإمبريالية التي تحكم الأداء السياسي الخارجي للمحافظين الجدد، بل لجميع الإدارات الأمريكية، مع قدر بسيط، وربما هامشي من الخلاف بين هذه الإدارة وتلك.
يشار هنا إلى أن بعض الدوائر في الولاياتالمتحدة كانت مقتنعة بأن برنامج الإصلاح والديمقراطية سيفضي إلى صعود التيارات العلمانية الأقرب إلى الولاياتالمتحدة، وذلك لأن الإسلاميين هم ظاهرة رفض عبثي ستنتهي مع نهاية الأزمات في المنطقة، لكن الواقع لم يثبت ذلك، أقله في المدى القريبً، فمن فلسطين إلى العراق إلى مصر والكويت والبحرين والمغرب والسعودية، كانت النتيجة هي صعود التيارات الإسلامية، ومعها تصاعد نبرة العداء للولايات المتحدة، الأمر الذي دفع إلى إعادة النظر في مجمل اللعبة، وصولاً إلى العدول عنها على نحو واضح، من دون أن يعني ذلك نهاية عصر ما يسمى الديمقراطية كما عرفتها بعض الأنظمة هنا وهناك.
في العراق وصل الحال بكيسنجر، وربما بآخرين إلى الحديث عن تقديم الاستقرار على الديمقراطية، فيما نتذكر أن هؤلاء هم الذين نظّروا لقدرة الديمقراطية على تحقيق الأمن والاستقرار، فضلاً عن بناء النموذج الذي سيقلده الآخرون. أما في مصر فكانت الردة عن الإصلاح واضحة في التعديلات الدستورية الجديدة، ويكفي أن تغيب قصة الإصلاح عن حيثيات البيان الختامي لقمة الرياض ومختلف مداخلاتها كي ندرك حقيقة ما يجري على الأرض.
من الجدير بالذكر أن موسم الإصلاح الأمريكي كان ثقيل الوطأة على الأنظمة العربية، والسبب هو أننا إزاء أنظمة لا يزعجها شيء كما يزعجها الحديث عن الديمقراطية أو المشاركة السياسية بما ينطوي على تغيير في الأوضاع القائمة، ولعل ذلك هو السبب الذي دفعها إلى الموافقة على الصفقة التي عرضت ممثلة في مقايضة الإصلاح بتقديم تنازلات في الملفات الخارجية المهمة، لاسيما فلسطين والعراق، فضلاً عن تنازلات أخرى تتصل بالسياسات المحلية، لاسيما الاقتصادية، ومن ثم الأمنية تحت ما يسمى مكافحة الإرهاب، كما هو حال تغيير المناهج واستهداف بعض المؤسسات واللافتات الإسلامية، بخاصة المالية أو الخيرية.
الآن تحس الأنظمة العربية بالكثير من الارتياح، فقد منحت رخصة التعامل مع أوضاعها الداخلية بالطريقة التي تروق لها من دون أن تتحمل عبء الرقابة والانتقاد، لا من الأمريكيين، ولا حتى من الأوروبيين، وإن واصلت بعض الجهات الأوروبية الحديث في هذه الملفات تحت لافتة مؤسسات مجتمع مدني ذات ارتباطات مع هذه الجهة أو تلك.
في هذا السياق يأتي ما نتابعه من عمليات قمع لقوى معارضة في العديد من الدول العربية، فيما يجري التدخل المسبق في الانتخابات بهذه الطريقة أو تلك في عدد منها، من دون أن يثير ذلك أدنى انتقاد من واشنطن، والنتيجة أن الاختراقات التي وقعت لن يكون بالإمكان تكرارها، وفي أحسن حال سيكون بالإمكان العودة إلى ديمقراطية ديكور من ذات اللون القديم، بل ربما أسوأ، حيث لن تحصل القوى الإسلامية سوى على نسبة محدودة في هذا البرلمان أو ذاك، مع قيود بلا عدد على تحركها في الواقع المحلي، اللهم إلا من رفع منها شعار "ولي الأمر" الذي لا يسأل عما يفعل.
لن يمنع ذلك بعض الجهات الأمريكية من الاتصال ببعض قوى المعارضة، بما فيها الإسلامية في سياق الضغط على دول بعينها لا تنسجم مع الخط الأمريكي، لكن ذلك لن يغير في المسار العام الذي بات واضحاً للعيان، حتى لو تجاهلته تلك القوى اعتقاداً منها بأن اتصالها مع واشنطن سيجعلها بديلاً، أكان ضمن مسار عادي، أم ضمن ذات السيناريو العراقي، أي الشطب بالقوة، الأمر الذي لا يبدو مطروحاً في واقع الحال، حتى في إيران ذاتها التي يتوقع تكرار السيناريو اليوغسلافي معها في حال مضيها في برنامج التخصيب واستقرار الرؤية على توجيه ضربة عسكرية لمنشآتها النووية والعسكرية.
خلاصة القول هي أن موسم الإصلاح أو "جمعته المشمشية"، بحسب المثل الشعبي قد انتهى، ولا يتوقع عودته في القريب العاجل، لكن ذلك لا ينبغي أن يدفع نحو تراجع حركة الإصلاح في العالم العربي، بقدر ما يعزز مسؤوليتها في مواجهة سياسة الخضوع للبرنامج الأمريكي، ومعها التراجع عن برنامج الإصلاح.