لم ينجح الأسلوب الموارب في الدعوة إلى عقد المؤتمر الإقليمي الدولي حول العراق في بغداد في العاشر من الشهر الجاري في إخفاء الرغبة والحاجة الأمريكيتين إلى عقده. فقد استقر الموقف على عقده في بغداد، بعدما ثار خلاف حول عقده في أنقرة أو في القاهرة، والمشاركة الواسعة فيه (16 دولة ومؤسسة دولية) لإعطاء انطباع انه مطلب عراقي من جهة وللتمويه على الاستدعاء الأمريكي له، بما يحفظ ماء وجه الإدارة الأمريكية التي لم ترفض توصيات تقرير بيكر - هاملتون حول العراق وحسب، بل وعملت على الضد من بعض توصياته من جهة ثانية.
لكن بقي السؤال عن الدور الذي سيلعبه المؤتمر في الملف العراقي: إدارة أزمة أم حلها؟
بغض النظر عن عقد المؤتمر وتشكيل ثلاث لجان متابعة، والعمل على عقد مؤتمر ثان في تركيا على مستوى وزراء الخارجية، فإن تحقيق أهداف المؤتمر مرتبط بجملة مطالب وشروط ليس بمقدور الإدارة الأمريكية تلبيتها أو فرضها تبدأ بموافقة دول الجوار على القيام بأدوار محددة لكبح دورة العنف بكل أنواعه (الجهادي والمذهبي والعرقي). وهذا يستدعي قبول إيران وسوريا والسعودية وتركيا ومصر القيام بدور نشط في الساحة العراقية لوقف دورة العنف يبدأ بمنع تسلل المقاتلين الأجانب
من الواضح أن هذه المطالب تصطدم بعقبات كبيرة، فسوريا وإيران ستنظران إلى الموضوع من زاوية محددة: لماذا يساعدان الإدارة على الخروج من المستنقع العراقي قبل أن تتخلى هي عن استهدافهما؟ وما العائد الذي ستحصلان عليه مقابل القيام بهذا الدور؟ وكيف سينعكس ذلك التعاون على العلاقات مع الولاياتالمتحدة ودول الجوار الأخرى؟. وهل تقبل إيران أن يسترجع العراق قدراته، خاصة العسكرية، ويعود إلى دوره كقوة موازنة لقوتها؟ وهل تقبل السعودية ببقاء العراق تحت تأثير إيران؟ وهل تقبل تركيا ببلوغ الحالة الكردية مرحلة تشكيل كيان خاص على حدودها وبالتماس مع المناطق الكردية فيها؟.. الخ.
وعلى الصعيد الداخلي هل تقبل القوى الشيعية المسيطرة على الحكم العراقي بإعادة تشكيل الجيش العراقي بضم الآلاف من ضباط وصف ضباط النظام السابق مع ما قد يعنيه ذلك من فقدان السيطرة على الحكم، أو تقبل هي والقوى الكردية بتقاسم عائدات النفط بشكل عادل مع بقية المناطق العراقية ؟ وهل تقبل القيادات الكردية بالعودة عن مسيرة الحكم الذاتي الذي ذاقت حلاوته ولمست فوائده؟.. الخ.
كل هذه المطالب والمصالح المتعارضة تتطلب اتفاقات عميقة وتنازلات كبيرة وإدارة جادة وحازمة.
فهل تقبل الإدارة الأمريكية الدخول في مثل هذه المساومات وعقد صفقات مع هذه الأطراف أم أنها عقدت المؤتمر لتحقيق هدفها : النصر وإلا فإنها مستعدة للذهاب إلى حرب أوسع وأشمل، وهل هناك إجماع أمريكي حول ذلك؟
يرغب الرئيس الأمريكي من مؤتمر بغداد، وفق صحيفة “الموند” الفرنسية (7/3)، تحقيق ثلاثة أهداف مترابطة ومتكاملة هي: أولاً “تهدئة الكونجرس ذي الأغلبية الديمقراطية”. وثانياً “التقليل من المجازفات غير المحسوبة”. وثالثا “تبرير اللجوء إلى القوة إذا ما أخفقت الطرق السياسية”.
والهدف الأخير، كما ذهبت الموند، “مبني على احتمال إخفاق جميع هذه المؤتمرات والاجتماعات في تغيير الأوضاع، وعندئذ يستطيع الرئيس الأمريكي القول، عن حقّ، إنه لم يُهمل أو يستبعد إمكانية للتفاوض، مبرّراً بذلك، في نظره على الأقل، احتمال اللجوء إلى استخدام القوة”.
وهذا -استخدام القوة- هو مطلب اليمين الأمريكي المتشدد الذي عبر عنه المفكر اليميني فريدريك كوجان في دراسته التي نشرها المعهد الأمريكي لأبحاث السياسة العامة، والتي دافع فيها عن خطة الرئيس الأمريكي في استخدام القوة العسكرية وموقف اليمين المتشدد الداعي إلى الحسم العسكري، حيث رأى أن “إشراك جيران العراق في الحل سيفشل أيضا لأن الأسباب الأساسية للعنف كامنة داخل العراق نفسها. كما أن الموارد المادية والبشرية للمتحاربين تأتي من داخل العراق إلى حد كبير وبالتالي فإن جيران العراق يشجعون العنف ولكن لا يمكنهم إيقافه”.
بينما علق التيار الليبرالي الأمريكي آمالا عريضة على المؤتمر وان كان ربط نجاحه بإجراءات أخرى أشمل لخصها وليام اودوم (جنرال متقاعد وأستاذ في جامعة ييل وباحث في معهد هدسون) في دراسته التي حملت عنوانا لافتا “النصر ليس مطروحا” تبدأ بالاعتراف بفشل الخيار العسكري، وتقديم هدف الاستقرار على نشر الديمقراطية في العراق، والتخلي عن سياسة الانفراد لأن الولاياتالمتحدة لا يمكنها وحدها تحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط، و”إعادة صياغة وتنظيم عمل القدرات الدبلوماسية والعسكرية الأمريكية لتحقيق النظام في المنطقة ككل وهذا سيقلص عدد أعدائها ويكسبها حلفاء جددا مهمين”. والهدف الأخير “لن يحدث ما لم تغادر القوات الأمريكية العراق”.
لم يفصح المؤتمر عن محصلة محددة حيث تعددت زوايا التعاطي مع الموقف عاكسة خلفيات متعددة: بين من يريد تعميق المأزق الأمريكي للتعجيل بأفول نظام القطب الواحد ومن يريد ثمنا كبيرا لمساعدة قوة مهزومة للخروج من ورطتها، وإدارة أمريكية لا تريد التسليم بمأزقها فحافظت على موقفها المتشدد من سوريا وإيران ولم تعدل في خطتها لزيادة قواتها في العراق والخليج أو تخفض حدة انتقاداتها لهما، وهذا يثير الهواجس والمخاوف أكثر مما يثير الطمأنينة.