تبدو مجرد حادثة سير مؤلمة.. لكن وجوه الناس وعيونهم وكلماتهم وتعليقاتهم عليها حملت أكثر كثيرا من مجرد الألم المتوقع جراء حادثة سير مروعة، فتيً في السادسة عشرة من عمره قاد سيارة والده في طريق الهرم وهو بالطبع ليس بحوزته رخصة قيادة بسبب سنه وبسبب هذا السن المزعج ذاته كانت قيادته للسيارة هوجاء.. فتسبب في مقتل خمسة أفراد من عائلة واحدة من بينهم أطفال، كانوا يقفون علي محطة أتوبيس. الحادثة مؤلمة بلا شك، وهي أيضا وبسبب حجم الخسارة الإنسانية فيها تثير فضول الإعلام، البرامج الحوارية التي تهتم بالقضايا اليومية وتتابع الشأن الجاري في مصر، مثل برامج العاشرة مساء علي قناة دريم والقاهرة اليوم علي أوربت وتسعون دقيقة علي المحور وغيرها.. تطرقت بالطبع إلي الحادثة، وكانت هناك لقاءات مسجلة أمام مبني المحكمة أو النيابة مع أهالي الضحايا، واتصالات بأسرة الفتي الذي يواجه تهمة القتل الخطأ.. وتفهم من التقرير في برنامج العاشرة مساء أن والد الفتي عرض مبلغ (الدّية) علي أهل الضحايا (81 ألف جنيه عن كل ضحية)، وأن أهل الضحايا رفضوا.. وبدا أنهم مواطنون مصريون بسطاء فقراء مثل الغالبية الساحقة من هذا الشعب.. صرخ أحدهم قائلا: (مش حيبّرد ناري فيهم إلا القصاص.. القصاص.. القصاص) وصرخت امرأة ملفحة بالسواد من أهل الضحايا: (سايبينهم كده طايحين في البلد)، الجميع يغلي غليانا فوق العادة.. الجميع يشير إلي طرف آخر بضمير (هم)، خلفية المشهد تخطت مجرد حادثة السير.. هناك طرفان.. ابن مدلل لأسرة غنية.. وضحايا فقراء، وإعلام يغطي في ظاهره المباشر حادثة بعينها.. وفي العمق.. يعري هذا التطاحن المكتوم بين الثراء والفقر في مصر. في حلقة سابقة من برنامج القاهرة اليوم كان هناك شيء مماثل.. صبية في العاشرة من العمر لأب مصري بسيط.. عضها كلب حراسة أمام فندق يقيم فيه أمير سعودي.. ويقف علي بوابة الفندق حراس الأمير بكلابهم.. كان هذا الكلب أحدهم، الصبية في المستشفي والأب مذهول.. البرنامج يبث علي قناة أوربت التي يمولها أمير سعودي.. والاتصال الهاتفي كان مع أحد الأمراء للاستفسار عن المدي الإنساني الذي يتمتع به الأمير في تفاوض ممثليه مع والد الضحية.. مرة أخري كان العرض.. دفع الدية، ومرة أخري كانت تعليقات الناس تدور حول (هم.. ونحن). يذكرني المشهد بتحقيق تليفزيوني قام به صحافي من تليفزيون BBC عن (الفقر والثراء) في البرازيل.. التحقيق رصد تجمعا سكانيا يضم فيلات أنيقة في حي برازيلي راق.. حوله سور.. داخل السور وفي تلك الفيلات الأنيقة تسكن أسر برازيلية من الشريحة العليا في الطبقة المتوسطة من ذلك المجتمع شديد التناقض.. خارج السور.. يدور أطفال الشوارع الجوعي حول صناديق القمامة التي تلقي فيها تلك الأسر مخلفاتها.. المحقق الصحافي المخضرم استمع للطرفين، سيدة من السكان داخل السور أعربت عن خوفها من (هؤلاء المجرمين الصغار) خارج السور.. تقول إنها تظل خائفة علي صغارها (منهم) حتي يعودوا من مدرستهم إلي أحضانها، سالمين.. تقول إنه (خوف يومي).. تقول إنها لا ذنب لها أنها هنا و(هؤلاء) هناك، صبي في الرابعة عشرة من عمره ممزق الثياب ملطخ الوجه حافي القدمين قال للصحافي بغضب مشيرا نحو الفيلات داخل السور.. أسأل نفسي كل يوم لماذا (هم) يأكلون في الداخل وجبات ساخنة وأفتش أنا عن مخلفاتهم في تلك الصناديق؟ لماذا هم ينامون في دفء الداخل تحت أغطية نظيفة وأفترش أنا هذه الجرائد هنا؟ في العراء.. خارج السور. كان هذا الفيلم التسجيلي من أكثر الأفلام الوثائقية التي شاهدتها اثارة في النفس لما يمكن أن تسميه (ذعرا إنسانيا)، الآن.. في مصر.. نستمع إلي (هم.. ونحن).. كل يوم وبشتي الطرق.. في بيوتنا وعلي شاشات تليفزيوناتنا وعلي كل قارعة طريق.. والد الفتي الذي قاد السيارة في طريق الهرم هو الآخر مأزوم.. قلق علي مستقبل ابنه الذي (ضاع) بسبب تصرفه الأهوج.. قلق عليه إذ يرقد في المستشفي بسبب إصابته في الحادثة.. خائف عليه (منهم).. يعرض ما يملك في مقابل أن يخفف (حقدهم) علي ابنه.. ويعترف أن حقدهم مفهوم بل ومشروع لكنه لا ينسي أن هذا الحقد الذي يتفهمه موجه في الوقت ذاته ضد ابنه.. خائف (منهم) رغم قلة حيلتهم.. وعلي الجانب الآخر.. صرخة مدوية سئمت الفقر.. ضجرت من ديمومة العوز.. يطلقها أهالي الضحايا المكلومين.. تصرخ المرأة الملفحة بالسواد.. (سايبينهم) كده طايحين في البلد.. هم ونحن.. نحن وهم، لكنك تتساءل.. الفقر بالفعل يثير السأم والضجر لكنه أيضا يثير الغضب.. من تراه في مصر الأولي بالغضب؟ لا تقولوا إنها مجرد انفعالات عاطفية.. الفقر في مصر يرتب في الظلام صفوفا تواجه ثراء ليس مدانا في حد ذاته لكنه ثراء أخذ رغب أو لم يرغب موقع الصفوف المواجهة.. هذه الثنائية القبيحة التي وصفها الدكتور جلال أمين بقوله (انقسمت الأمة المصرية إلي أمتين.. أمة غنية.. أفرادها قلة.. في مقابل الغالبية من المصريين التي أصبحت أمة الجوعي).. كان الفقر موجودا في مصر منذ الأزل.. لكن الجوع ندر أن يكون هناك علي تلك الضفاف.. الآن .. تسمع كل يوم تقريبا عن أب انتحر لأنه لم يتمكن من شراء البيض لكل أبنائه.. أم أحرقت نفسها بسبب صراخ يخرج لا من حنجرة أطفالها وإنما من خواء بطونهم.. أخ قتل أخاه من أجل رغيفين وقطعة جبن.. رجل أعمال ينفق علي غذاء أسد يربيه في قصره ثلاثين ألف جنيه شهريا.. قديما قال فيلسوف كبير:(ليس من المهم تفسير العالم.. المهم تغييره) هذه ليست انفعالات عاطفية (وبالمناسبة.. لا يضير المرء أن تنفعل عواطفه ضيقا بهكذا قبح).. إنما هي تساؤلات يطرحها تأمل ما وراء الحوادث.. يطرحها عليك سواء كنت داخل السوار.. أو خارجه.. إلي أين.. نحن وهم؟!
وجيه عزيز مطرب يغني لها: شوية هموم بتوع كل يوم
لا غني عن التليفزيون كوسيلة للفنان الحقيقي كي يصل إلي الناس.. رضينا بهذه الحقيقة أم لا.. أما من هو الفنان (الحقيقي) ومن هو غير الحقيقي.. فهذه قد نختلف عليها (فالحقيقة لا توجد إلا في مخيلتنا) كما قال أحدهم في زمن غابر، لكن عندما تستمع إلي مئات الأغاني وتكون كلها.. بلا استثناء.. تلف وتدور وبنفس المعني واللحن تقريبا حول رغبات الجسد.. فإنك حتي ولو من باب الرغبة في التغيير.. تتساءل عن (نوع آخر من الهموم غير هموم الجسد) يوجد في حياتنا ويحتاج أن تعبر عنه الأغاني.. هذه ليست إدانة لتلك الأغاني فأجسادنا ورغباتها الملحة.. شئنا أو أبينا.. هي أحد همومنا.. لكن هناك أيضا هموما أخري، برنامج العاشرة مساء استضاف مطربا لا تري له أي (كليب) علي قنوات الأغاني.. رغم أنه يغني منذ نحو عشرين سنة وله جمهوره في الأماكن التي يغني فيها.. لا تري له أغنية من تلك الأغاني التي يختفي فيها صوت المطرب وراء ضجيج آلات الموسيقي.. وتتواري فيها الكلمات وراء أجساد الموديلز اللاتي لا تخلو من أجسادهن شبه العارية أي أغنية.. وجيه عزيز مطرب يغني نوعا مختلفا من الأغاني.. مختلفة في كلماتها.. مختلفة في لحنها.. أغان تشعر بها تغني لك أنت.. لك أنت بالذات، كثيرون لم يكونوا يعرفون وجيه عزيز وعبروا عن ذلك عند اتصالهم بالبرنامج.. عزيز فنان مختلف عزف عن الطريق العادي للشهرة لأنه أدرك كما قال أن (لونه) لن يجد تشجيعا.. لكن لونه هذا نحتاجه فعلا.. هذه الأيام.. حيث أصبحنا في حاجة ماسة إلي الفنون الراقية بكل أشكالها لنخرج بالمواطن المصري بالذات من قبح طاله في كل أوجه حياته، الفنون الراقية وأحدها الغناء العميق هذه هي أحد الوسائل لإصلاح إنسانيتنا التي شوهها واقع قبيح.. غني عزيز في الحلقة أغاني كثيرة جميلة.. وبعد الحلقة فتحت موقعه علي الإنترنت فإذا بأغان جميلة لم نكن لنعرف بوجودها إلا لأننا رأيناه ضيفا في التليفزيون يروي تجربته.. يغني عزيز بصوته الدافئ وعوده وعمق كلمات علي سلامة.. الذي أسقط حيرته في وزن الشعر علي حياة المواطن المنهك الحيران في تكييف حياته بالقليل المتاح له:(كل ما أوزن ألاقي لسه ناقصلي حته.. أحط حته تقل حته.. وأجيب قميص تضيع جاكته.. وأعيشلي ساعة يفوتني ستة.. كل ما أوزن ألاقي ناقص أقول بناقص لو هي حته.. وحاجات تسيبني وحاجات تأخدني لحاجات تخبط في كل حته.. وأقول هانفرح في يوم هانفرح.. ويوم ما نفرح علي الله يفضل.. في القلب حته) وفي أغنية أخري يغني لواقع تحسه أنت في حياتك اليومية:(الشعر عيره والكحل عيره والورد فوق الخد عيره.. حتي الهتاف جوّه المسيره حيرني حيره.. دي كارثة واللا ده وضع عادي) ، يغني عزيز علي العود لهموم كل يوم عند الناس: (شوية هموم بتوع كل يوم يلفوا في راسي.. أفّر يطولوني.. ولما يطولوني.. أقلع مداسي وألعن دماغ إللي نايم وناسي... وناسي.. كاتبة من مصر