ليس شكسبير غريباً في حد ذاته، بل هو السبب في غرابة الآخرين. فالآثار الباقية من حياته التي يصفها الباحث الشكسبيري "ستيفن جرينبلات" بأنها "وفيرة لكنها ضعيفة"، تصور رجلاً تكون أجزاؤه غير متزامنة بالكامل: القروي الذي نشأ ثرياً لكنه يتوسل من أجل مبالغ زهيدة، العبقري بمعني الكلمة ويبدو أنه لم يكتب حرفاً أو امتلك كتاباً واحداً. لكن حكايات رفاق العمر التي رواها أناس ممن رفضوا تأليف شكسبير لحكايات بالغة الغرابة، تزخر بالشفرات السرية، بالمؤامرات الأسلوبية وقراءات المسرحيات بالكيفية التي جاءت بها. فمنع اكتشاف حواجز السيرة الذاتية أو اختراع آلة الزمن، لن يمكننا أبداً من أن نحصل علي تفسير مقنع عن كيفية كتابة "هاملت" و"هنري الثامن" ومسرحيات أخري، فقط درجات متفاوتة من عدم الاحتمالية. منذ خمس سنوات مضت، كتب "جيمس شابيرو": "سنة في حياة شكسبير: 1599"، دراسة مدققة قدمت شريحة من التاريخ المعياري الأكثر قابلية للتصديق. والآن في "الوصية المتنازع عليها" يعالج قضية التأليف نفسها. إن طريقته الممتعة هي أن يرتفع إلي أعلي طوال الوقت، ليهتم "ليس فقط بما يظنه الناس والذي قيل مراراً وتكراراً باستخدامه مصطلحات غامضة ولكن تركيز الاهتمام أكثر علي السبب الذي من أجله هم يظنون ذلك". ويشق طريقه إلي الخلف، إلي الشكوك المبكرة، حيث يقدم كتاب "شابيرو" كلاً من التاريخ والسيرة الذاتية، خليطاً ينفذ إلي بصيرة حتي هؤلاء الذين لا يعرفون "أوثيلو" (تراجيديا لشكسبير يُعتقد أنها كُتِبت عام 1603 وقائمة علي قصة قصيرة إيطالية) من "بريكليس" (خطيب إغريقي ورجل دولة بارز في أثينا 495-429 قبل الميلاد). يستخدم "شابيرو"، أستاذ اللغة الإنجليزية والأدب المقارن في جامعة كولومبيا، النزاع حول هوية شكسبير ليُظهر كيف أن وجهات نظرنا عن الماضي تتشكل بالدليل الذي يصل إلينا عن طريق المصادفة، وكيف نتأثر نحن بتغيرات الأجواء الروحية لعصرنا. وعلي الرغم من افتراض العشرات من المؤلفين علي مر السنين من رفاق العمر زاد عليهم أربعة مؤلفين مفترضين في الفترة التي كان يكتب فيها هذا الكتاب لكنه ركز هنا علي مرشحين اثنين ممن يحددهم بأنهم "الأفضل توثيقاً والأكثر تتابعاً": الفيلسوف ورجل البلاط "فرانسيس باكون" و"إدوارد دي فير"، إيرل أوكسفورد في القرن السابع عشر. إن التبدل في سمعتيهما علي مر ال150 سنة الأخيرة كان متطرفاً، بحيث تظنهما النقيض من "بن جونسون" المادح الشهير لشكسبير: إنهما لم يكونا لكل زمن، لكن لعصر واحد. ومن وجهة نظر "شابيرو" أن الخلل في الخلاف حول المؤلف بدأ بنوع من الخطيئة الأصلية للدارسين. فبالنسبة للطبعة الجديدة لشكسبير المكتوبة في 1790، حاول "أدموند مالون" أن يضع المسرحيات في ترتيب زمني. فنزع عن النصوص أية لازمة سريعة أو نتيجة مباشرة من حياة شكسبير وزمنه، وهو المنهج الذي جعله "شابيرو" مساوياً مع "ترك باب جهنم مفتوحاً دون اكتراث". فبمجرد أن تفترض أن شكسبير يمكن أن يكتب فقط عن أشياء عاشها بصورة مباشرة، فإن غياب تتابعات معينة من سجل سيرته الذاتية المتقطعة الصيد بالصقور وخبرة البحرية علي سبيل المثال تبدو أنها لا تؤهله لأن يكون هو المؤلف. تغيران في القرن التاسع عشر فتحا الباب علي مصراعيه لاندفاع الغوغاء. فالعلم الجديد تجرأ علي تحدي السلطة المقدسة لهوميروس والأناجيل. وفيما بعد سرعان ما نقل فيض من السير الذاتية إلي نطاق واسع من المشاهدين الحقائق القليلة عن حياة شكسبير استُمد معظمها من السجلات المالية الباقية ومحاضر الجلسات القضائية بدون أن يوضحوا أنه ربما يكون من الغريب أن نري أشياء أخري كثيرة تبقت من القرن السادس عشر. ومن بين هؤلاء الذين انزعجوا من الفجوة ما بين المسرحيات غير العادية وبين الحياة العادية في الواقع، كانت هي الأمريكية الرائعة القلقة "دليا باكون". لقد رفضت القبول بأن يكون "الغبي، الجاهل، ممثل الدرجة الثالثة" استطاع أن يكتب أعمالاً بمثل هذه "العبقرية الإنسانية الفذة". وكان ابتكارها هو أن تبحث عن هوية المؤلف في المسرحيات نفسها، لترسم ملصق "مطلوب" الذي مازال المتشككون يستعملونه حتي اليوم: مجموعة من الخصائص التي يقطرها "شابيرو" علي "الدوافع الخالصة، والنشأة الطيبة، والسفر إلي الخارج، والتعليم الأفضل، ورائحة البلاط". فبالنسبة لها أي "دليا باكون" أن هذا قد وصف هذه العبقرية متعددة الأشكال لإنجليزية عصر النهضة: فهي تزعم أن "فرانسيس باكون" (لا يبدو أنه يمت لها بصلة قرابة) قاد مجموعة من السياسيين تحولوا كتاباً ممن عملوا بشكل مشترك علي هذه المسرحيات. ولمعرفة لماذا قبل الناس بهذه النظرية المشكوك فيها، يستخدم "شابيرو" التقنية التي يمكن، لو استخدمها شخص آخر أقل التزاماً لمعالجة كل الجوانب بعدالة، أن تكون أداة لتهكم لاذع: فهو يحول الحجج المشكوك فيها ضدهم. وحينما يطبق علي عمل "دليا باكون" نوعاً من القراءة المدققة، ليستنتج هذا الإحباط والافتقار إلي المضمون الذي أجبر "فرانسيس باكون" أن يتناول ريشته، يكتشف هو أي "شابيرو" إحباطها وافتقارها لمنظور الحديث. (فهي قد أُحبِطت في مهنة الكتابة المسرحية، وخجلت من علاقة الحب في المسار الخاطئ؛ وسوف ستقضي سنواتها الأخيرة في لجوء سياسي). ويجد "شابيرو" شكلاً مشابهاً من الإلهام الذاتي في الدفاع "الباكوني" عن "مارك توين" الذي كان قبل كل شيء كاتباً يكتب بذائقة رواية السيرة الذاتية بأسماء مستعارة. ومع نهاية القرن التاسع عشر، يكتب "شابيرو" أن القضية "الباكونية" قد بدأت تخبو، جزئياً، ليس فقط لأن ما كانت تزعمه ليس متماسكاً، بل أيضاً بسبب روح العصر المتغيرة: "فالفلسفة والسياسة كانتا بعيدتين عن الرغبات الأوديبية والحداد علي الآباء الموتي فيها". فلا مسافة عقلية أكبر تفصل "بروسبيرو"، لقد أراد القرن العشرون صراعاً متحرراً عن هاملت. في 1920، قال "جي تي لوني"، ناظر مدرسة من إنجلترا بهذا: "إدورارد دي فير"، المولود في 1550 (14 سنة قبل شكسبير)، "إيرل إكسفورد" قضي حياته حول البلاط، كتب قصائد من تأليفه، ساند الممثلين الآخرين وسافر كثيراً في إيطاليا، حيث قُدِمت الكثير من المسرحيات. وفي الحقيقة في رحلة عودته من البر الأصلي، هاجم القراصنة سفينته، لتكون النبوءة عن أغرب حادثة في "هاملت". ولا تحدد نظرية "أوكسفورد" في أكثر أشكالها عدوانية مجرد رعاية للمسرحيات، بل يقول "شابيرو" إنها تحاول أي النظرية: "أن تكتب... كل من التاريخ السياسي والأدبي لإنجلترا". إن الكتاب الجديد ل"تشارلز بيوكليرك": "المملكة المفقودة لشكسبير" يأخذ النظرية إلي حدها المتطرف. إنها تقضي بأن "أوكسفورد" لم يكن فقط مجرد مؤلف المسرحيات، بل كان كذلك الابن السري ل"إليزابيث" الأولي، نتاج سفاح القربي من لقاء بين ملكة المستقبل التي كان عمرها حينئذ 14 عاماً وعمها. علاوة علي أنه حينما كبر "أوكسفورد"، نام مع أمه التي حملت منه ابناً/حفيداً، "هنري رسلي" ثالث "إيرل" من ساوثهامبتون راعي شكسبير والمؤلف المحتمل للسوناتات الشعرية "جمال الشباب". (انتشاء صغير غريب: يقول "بيوكليرك" الذي كتب أيضاً السيرة الذاتية ل"نيل جوين"، إنه