لآلئ معرفية ينثرها كتابان متدفقان صدرا حديثا عن المركز القومي للترجمة ودار آفاق للنشر والتوزيع ضمن سلسلة "عقول عظيمة" أطلقتها دار "بلاك ويل" البريطانية لتخليد سير العباقرة، نلمس ملامح غير مطروقة في شخصيتي شكسبير وداروين، لكنها الأقرب إلي وجههما الحقيقي وانجازهما في الأدب والعلم. هنا يبدو المسرحي الأول متلونا بألوان شخوصه، أو لنقل إنه الاستنتاج الذي ارتاح إليه المؤلف في طريق بحثه عن أي مما قدم ويليام شكسبير يترجم فكره الشخصي. في نهاية كتاب "أفكار شكسبير.. أشياء أخري في السماء والأرض"، يتخيل مؤلفه أستاذ العلوم الإنسانية والأدب المقارن "ديفيد بفينجتون"، خطابا يلقيه صاحب "روميو وجولييت" وهاملت" و"الملك لير" في حفل اعتزاله وقد بلغ الخمسين، تقريبا قدّم لنا المؤلف حيلة لطيفة تطفئ شغف كثيرين من دارسي ومحبي ذلك الكاتب العبقري، تمنوا الوقوف ولو علي لمحات قليلة من أفكاره ورؤاه في الحياة والسياسة والمرأة والدين. يعلن شكسبير في خطاب ديفيد المتخيل أن الدراما الجيدة "لا يقينية"، تكون أكثر تأثيرا ما لم تكن وعظية، والدين يشبه الدراما، كلاهما لا يمكنهما تغيير العالم سياسيا وعمليا، ومبدأ الشك لا يتعارض مع التدين، فقط "تشككنا يلطف إيماننا"، أما النساء فهن الرؤية المعادية لاعتلال مخيلة الذكر، وهذا يفسر احتياج كل منهما للآخر. قليلة هي المعلومات التي نعرفها عن الآراء والأفكار الشخصية لشكسبير خارج إطار كتاباته، وتصور أو تخيل تلك الأفكار بحسب مؤلف هذا الكتاب، ترجمه الشاعر عبدالمقصود كريم، أمر مغري وجذاب ويشكل تحديا في نفس الوقت، "لأن ما ينطق به هاملت أو لير أو مكبث، أقوال بالغة الحكمة ومحفزة وفصيحة"، تجعلنا نتخيل أننا نسمع صوت المؤلف نفسه، حتي مع إدراكنا أنها أصوات روائية في المقام الأول. ومع ذلك ينصحنا بأن نتحلي بالحذر في افتراض أننا يمكن أن نسمع شكسبير يتساءل مع هاملت: "أكون أو لا أكون"، أو أنه شخصيا يستسلم للخلاصة العبثية لمكبث بأن "الحياة ليست إلا ظلا يمشي"، لأن ليست كل كتابة إبداعية سيرة ذاتية، فضلاً عن سبب موضوعي هو أن كتاب الدراما من أمثال شكسبير كانوا يعرفون في عصر النهضة ب«المسلين والشعبيين»، وظيفتهم تصميم الحفلات المسرحية حول القصص الشعبية الشائعة، وهذا ما أبعد المسرحية عن كاتبها. «هل تنطق شخصيات شكسبير أحيانا بمعتقداته الشخصية الخاصة؟»، من هذا التساؤل يبحث المؤلف في مسرحيات شكسبير وقصائده عن الإرادة الحرة مقابل الحتمية، والنسبية مقابل اليقين، والتنجيم والتشكك إلخ، والأهم من ذلك بل والأوضح في أغلب أعماله هو فلسفة الأخلاق، أو ثنائية الخير والشر، متتبعاً مالأفكار المقدمة في مسرحيات شكسبير وقصائده، ويقف بالتفاصيل عند تطور تلك الأفكار بحسب كل مرحلة، وهذا التطور هو ما يكشف بشكل أو بآخر عن الانشغالات الفكرية لشكسبير ونظرته الفلسفية الخاصة للوجود الإنساني، من أفكاره عن الجنس والنوع في كوميدياته الرومانسية الأولي، إلي أفكاره عن السياسة في مسرحياته التاريخية، مرورا بأفكاره عن الكتابة عموما والتمثيل خاصة في السونيتات، وتركيزا علي أفكاره الدينية وقضايا الإيمان عبر التراجيديات الشكسبيرية الخالدة، أو «مسرحيات القضية » كما يسميها ديفيد، وانتهاء بأفكار التشكك والريبة والتشاؤمية أو ما يعبر عنه ب"كراهية البشر" في "هاملت" و"الملك لير" بالتحديد. أولا وأخيرا، لسنا في حاجة إلي معرفة أن مسرحيات شكسبير هي مناظرة بين أفكار متناقضة ومتضاربة، ومن تصادم الأفكار هذا يخلق شكسبير تفرده وبراعته ومراوغته تلك، وهذه مشكلة أخري تزيد من صعوبة تحديد أفكار شكسبير، يقول مؤلف الكتاب إن أي محاولة لتحديد رسالة مسرحيات شكسبير ستبوء حتما بالفشل، لكن بقراءة بسيطة لكل مؤلفاته نكتشف بسهولة أن شكسبير بدا إنسانا عميقا بكل ما تحمله الكلمة من معني، يشجع علي المثاليات، ويدعونا إلي التعاطف مع شخصياته الرومانسية أو الخيرة حتي لو كانت جشعة، وفي المجمل يقدم لنا مجمل أعماله دليلا علي إنجاز خلقي عميق، ليست أعماله فقط بل حتي استجابات الجمهور علي مدار أربعة قرون وإلي اليوم.