(كلمة مجدي قرقر التي ألقاها في حفل تأبين المسيري بنقابة الصحفيين يوم 12 يوليو 2009) عبد الوهاب المسيري: الفيلسوف العالم، قاهر الصهيونية، المناضل المجاهد ضد الفساد والتبعية بقلم دكتور مجدي قرقر رحل الدكتور عبد الوهاب المسيري أحد عمالقة الفكر في حياتنا المعاصرة .. مات واقفا كالنخل بعد أربعين عاما من النضال الفكري والإبداعي والسياسي .. مات واقفا في مواجهة مرض السرطان الخبيث وفي مواجهة الاستبداد والفساد الأكثر خبثا وخطورة. عبد الوهاب المسيري الذي كان الجميع يحتفي به أينما كان ووقتما كان أصبح الجميع في أخريات سنواته يخشون الالتقاء به أو مهاتفته - بعد توليه مسئولية المنسق العام لحركة (كفاية) المعارضة - حتى أنه شكر للأستاذ محمد سلماوي رئيس اتحاد أدباء وكتاب مصر والعرب شجاعته إذ دعاه لحضور إحدى فعاليات الاتحاد الثقافية قبل وفاته بشهرين دون خوف من السلطات الرسمية. في عام 1989 عهد إلي الأستاذ عادل حسين بمسئولية تنظيم موسم ثقافي في مقر الحزب بمصر الجديدة، موسم ثقافي يشارك فيه النخبة السياسية والفكرية في مصر ويقرب الرؤى ويعظم المشترك بين التيارات الوطنية المختلفة ويبعد بها عن المناظرات والمنازلات وتسجيل الأهداف في مرمى الآخر، ويمتد الموسم لعامين أو ثلاثة، ومن بين هذه الرموز الفكرية التي شرفني بمعرفتها كان الأستاذ الدكتور عبد الوهاب المسيري والي تعددت لقاءاتي معه في اجتماعات مجلس أمناء مجلة "منبر الشرق" التي كان يصدرها، المركز العربي الإسلامي للدراسات والذي أنشأ في نفس التوقيت ليكون بؤرة إشعاع فكري وثقافي. وتابعت التواصل مع الدكتور المسيري وتضامن معنا في كل المواقف التي تستدعي تكاتف القوى للذود عن أمتنا.
ثلاث محطات في حياة المسيري المحطة الأولى: محطة الفيلسوف العالم المفكر المبدع المتمسك بهويته العربية الإسلامية، والتي عرضها في كتابه "رحلتي الفكرية: سيرة غير ذاتية غير موضوعية- في البذور والجذور والثمار" كتب عن العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة وكتب عن إشكالية التحيز: رؤية معرفية ودعوة للاجتهاد وكتب عن الحداثة وما بعد الحداثة، ودراسات معرفية في الحداثة الغربية. والدكتور المسيري العالم له دراساته اللغوية والأدبية من أهمها: اللغة والمجاز: بين التوحيد ووحدة الوجود، ودراسات في الشعر، و في الأدب والفكر، والدكتور المسيري المبدع والفنان صدر له ديوان شعر ونشر عدة قصص وديوان شعر للأطفال. وعندما تزوره في بيته فهو بيت عربي في شكله وأثاثه، المشربيات، الأرابيسك، اللوحات الفنية، السجاد أو الكليم العربي، نورج الحقل الموضوع في مدخل المنزل، كل شيء يؤكد أنك في بيئة عربية يحبها صاحبها. ليس المبنى والأثاث فقط بل والملابس أيضا، دكتور المسيري صمم لنفسه قميصا خاصا به يناسب بيئتنا الحارة المتربة، قميص يجمع بين القميص الأفرنجي والجلباب البلدي، قميص بنصف كم، وبدون ياقة، وفتحته مماثلة لفتحة الجلباب البلدي ولا يتجاوز طولها ال 20 سم، إنه قميص المسيري العجيب، والعجب هنا عائد على القميص. المحطة الثانية: الدكتور عبد الوهاب المسيري قاهر الصهيونية !.. والذي وقف على ثغرة لم يقف عليها أحد قبله فهو صاحب أشهر موسوعة عن الصهيونية .. لم يكتفي بالوقوف على الثغرة بل فتح أبوابا للمعرفة فيها ليكشف حقائق وتاريخ الصهيونية !.. ثم كتابه الصغير الذي قدمه هدية للمقاومة واحتفاء بها بعد انتفاضة الأقصى المباركة ستظل موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية علامةً بارزةً في مسيرةِ الراحل الكبير الفكرية، وستبقى مرجعًا أساسيًّا على تطاول الأزمان لفهم المسألة اليهودية والمشروع الصهيوني، وستبقى الملامح الرئيسية التي أرساها المسيري في فهم الصراع ضد الصهيونية قائمة ومحل جدال شديد حتى تنتصر ضد هذا المشروع العنصري. والشيء المهم أن هذا العمل الموسوعي شارك فيه مجموعة كبيرة من الشباب وقتها يملئون الساحة الفكرية الآن كتيار يمثل مدرسة المسيري ليظلوا يزودون عن هذه الثغرة في مواجهة الحلف الصهيوني الأمريكي. المحطة الثالثة:محطة المناضل المجاهد الذي خرج إلى المظاهرات وسط المئات والعشرات مع حركة كفاية؛ حيث لم يُقعده سنه .. لم يمنعه مرضه عن تولي قيادتها ضد الظلم والفساد والتوريث والاستبداد .. أبت عليه شجاعته إلا أن ينتصر للوطن وينزل من على مقعد العالم والمفكر والمبدع ليساعد في انتشال هذا الوطن المرزوء بالمحن من كبوته .. ينزل إلى ساحة العمل السياحي ومعتركه منسقا عاما لحركة (كفاية) لأنه وجد فيها فرصة ذهبية – كما كان يردد - للخروج بهذا الوطن من محنته. لم تكن هذه هي المرة الأولى الذي نزل فيها إلى الشارع بل نزل معنا منذ ما يقرب من العشرين عاما إبان العدوان الأمريكي على العراق وقتها كانت هناك تظاهرة بجوار مسجد عمر مكرم في مواجهة السفارة الأمريكية نظرا للحشود الأمنية ومع تصاعد الهتافات – وكان ذلك غريبا على الشارع السياسي المصري – انصرف البعض من الشخصيات العامة (دكتور جلال أمين رحمه الله – أستاذ جورج إسحاق) ولكنه المسيري أصر على الاستمرار بل وشارك ضمن الوفد الذي التقى بالمستشار الثقافي للسفارة الأمريكية وأصر وقتها على التحدث أمامه باللغة العربية وهو من هو كأستاذ متفرد في آداب اللغة الإنجليزية. كانت وقفته الثانية التي أذكرها أمام السفارة الفرنسية حيث قدمنا احتجاجا ضد محاكمة الفيلسوف الفرنسي المسلم بتحريض من الصهاينة بتهمة معاداة السامية. ***** أتوقف عند محطات مهمة في حياة المسيري وأولها: التحول الكبير الذي حدث بانتقاله من الماركسية إلى الإسلام.. يقول المسيري عن نفسه إنه لم يكفر بالله قط، ولم يتحول إلى الإلحادِ، ولكنه اعتنق الفكر الماركسي كفلسفةٍ تُقدم أجوبةً عن الأسئلة الكبرى، وإن رفاقه وزملاءه كانوا يطلقون عليه لقب "الماركسي المسلم"، وإن تحوله جاء بعد اكتشافه المبكر فشلَ الفلسفة الماركسية في وضع حلولٍ حقيقيةٍ وأجوبة تامة عن أسئلة الوجود الكبرى؛ وذلك قبل فشل التطبيق للنظرية في الدول الاشتراكية والشيوعية. كان تحول المسيري مع مجموعة من رفاقه يضيفون إلى الفكر الإسلامي من موقعٍ مستقلٍ؛ مما أثرى الحياةَ الفكريةَ كلها وقوَّى المعسكر الإسلامي برجالٍ مثل المسيري والبشري وعمارة وعادل حسين وغيرهم. كان المسيري رحمه الله مصنعًا للفكروالتأصيل المعرفي، والمصانع الفكرية في بلادنا- بكل أسف- قليلة؛ لأننا لا نقدِّرها ولا نمهِّد لهاالسبل، والإنتاج عندنا فيها محدود؛ فالموجود من مصانعالفكر وُجد بجهودٍ ذاتيةٍ وبإرادةٍ وإصرارٍعلى النجاح والانتصار لهوية أمتنا العربية الإسلامية تعلمت منه كيف تكون بداية أية قضية بتحرير المصطلح تعلمت منه كيف يكون تأصيل الهوية في مظهرنا ومسلكنا .. كنت أتعجب من قميصه الذي صممه لنفسه بدون ياقات وصدر مفتوح نسبيا مع مسحة من زخرفة إسلامية فيقول هذا هو المناسب لنا في أجواءنا الحارة لم يمت المسيري؛ لأنَّ ما تركه من فكر وعلم وتلاميذ سيحملون إرثه الحقيقي وسيكملون مسيرته المعطاءة في شتى الميادين. رحم الله عبد الوهاب المسيري صاحب الروح المرحة والنكتة الحلوة الذي كان يزين أي مجلسٍ يكون فيه، ويبث فيه بجانب أفكاره وثمار عقله روحًا مرحةً وحديثًا طليًّا.