كنت قد دأبت على التعامل مع بعض الأقلام المأجورة والأصوات النشاز بالتوجيه الرباني «وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما». وقول الشاعر: لو كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار إلاّ أنّ سياسة التجاهل قد لا تنفع دائما مع هؤلاء، كما لا ينفع معهم الرد، فقد ران على قلوبهم ما كانوا يكتبون حتى أصبحوا يرون أنّهم فوق النقد والتوجيه والنصيحة لأنّهم أصحاب قيم ومثل عليا أو ما يعرف ب high moral ground، ولكننا نجيب عليهم لا أملا بهم وإنّما أملا بالناس أن يتنبّهوا وينجوا من مصائدهم، وإن كنّا نقرّ بمساحات واسعة من الاختلاف وقبول الآخر، ولكنّ ذلك ضمن دائرة الفطرة البشرية السوية وما اصطلح عليه الناس من الطبيعي والمقبول، إلاّ أنّ إقرار الشذوذ لا يعدّ من التقدّم أو التطور أو الحرية مما يتشدّق به أدعياء الانحلال ليبرروا مواقفهم! ولقد خرجت علينا إحدى الكاتبات في صحيفة يومية وهي المعروفة بالآراء الشاذة واللامنطقية والتي تحاول تجميلها بضلالات من الغرب والشرق وشطحات الصوفية والمعتزلة مع حقد دفين تجاه كل ما هو إسلامي لا ينفك يظهر بين سطورها في كل ما تكتب، ويصفّق لها جوقة من القرّاء يؤمّنون على خرافاتها بينما تمارس الصحيفة سياسة الإقصاء على كل من يعلّق معارضة لها! تحت عنوان «الاحتجاج بالتعري» تسوق لنا الكاتبة الجهبذة جزءا من تاريخ العريّ ورموزه وكيف استعملته الأمم كوسيلة تصفها «بالحضارية» للاحتجاج وتثني على آخر المتعرّيات، الفتاة المصرية علياء التي نشرت صورتها عارية على الفيس بوك احتجاجا على ما تسميه العنف والتطرف في الشارع المصري، والفتاة تصف نفسها في مدوّنتها بأنّها ملحدة وأنثوية ويغصّ الانترنت بصور أخرى لها في مواقف مخلّة بالذوق والأدب، والكاتبة تساندها في حقّها في التعبير عن نفسها بهذه الوسيلة ضدّ ما تسميه اليمين العابس المتجهّم الذي سيستخدم السواطير في قص رقبة كل من يغرد خارج السرب! وتضيف الكاتبة بخبرتها الموسوعية أمثلة من الأبالسة السابقين الذين سلكوا ذات دروب الانحلال وشجّعوا عليها كمغني فرقة البيتلز جون لينون، ومن قبله من تنعتها بالمفكرة سيمون دي بوفار والعجوز الشمطاء نوال السعداوي، وتنسى أن تسوق سيرتهم وحياة الشقاء التي عاشوها في التنقل بين الرجال والنساء والموت بالكحول والمخدرات لمن قضى منهم حتى تكتمل الصورة في أذهان من يريد أن يجلّهم أو يقتدي بهم! تنسى الكاتبة أنّ الأديان السماوية ربطت بين الخطيئة الأولى ORIGINAL SIN والعريّ الذي خرجنا بعده من الجنة ثم استتر أبو البشر وأمهم بورق الشجر، لأنّهما بالفطرة ودون خبرة سابقة عرفا أنّ العري سوأة وأنّ الستر هو الأصل اللصيق بكينونة الإنسان. تنسى الكاتبة أنّ المدن والأمم السابقة هلك بعضها بالعري والشذوذ، ومن لا يريد قراءة الشواهد التاريخية فليزر مدينة بومبي Pompeii الإيطالية التي ما زالت بقاياها شاهدة على مصارع الغابرين بعدما بلغوا كل مبلغ من الترف، ولكن انتشار العري خصوصا والفواحش عموما عجّل بفنائهم فاحترقوا بنيران البركان وغباره، ولكنها شواهد لا يفهمها إلاّ من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. فهل نستعجل لشعوبنا ذات المصير أم أنّ جهالتنا تأخذ أطراف الحكايا وتسوق السخافات دون أن تخبرنا بالنهايات؟! وبالعودة للفتاة المصرية وما فعلته فيكفيها خذلانا مساندة 40 امرأة إسرائيلية لها، قمن بما قامت به من التصوير العاري وقوفا إلى جانبها! فالقضايا تعرف بأنصارها ونبل وسائلها، فأيّ قضية هذه التي يقف أعداء الأمة لدعمها وهم المعروف عنهم استخدامهم للجنس كوسيلة لإسقاط الشباب العربي؟! الكاتبة التي تدافع عن العري لا تملك نفس الموضوعية والأخلاقية للدفاع عن حق المرأة بالحجاب، بل تعتبر كل من يطالب به من المفتونين والمفتونات والمطالبين بالطهارة المزيفة! وبهذا تستخدم هي الحرية كسلاح ذي حدّ واحد تعمله في مخالفيها الذين تنعتهم بكل جهالة وتخلّف، ومنطقها أنّ للمرأة الحرية في جسدها your body is your own لا ينطبق على المرأة المحجبة التي اختارت الستر والحجاب بإرادتها! لا نلوم مثل هؤلاء، فالزمن يشهد بوجودهم دائما بألسنة حداد أشحة على الخير، اللوم كل اللوم على من يعطيهم المنابر لينفثوا سمومهم في الناس، وهذا لا يمكن أن يقع تحت طائلة تعدد الآراء، ولقد صدق الرافعي إذ قال «إذا كان هناك ما يسمى بحرية الفكر فليس هناك ما يسمى بحرية الأخلاق». ويجب علينا أن نستمر في التفريق بين ما هو حضاري وما هو فوضوي وما هو بشري وما هو حيواني وما هو طبيعي وما هو شاذ، فالسوء لا ينقلب خيرا مهما زيّنه الأبالسة. والثورة التي حررتنا من الظلم لن تستبدل به فسوقا وعصيانا. والثورة التي أخرجت أجمل ما فينا لا بد أنّها ستلفظ كل المرتزقة المشوّهين في كل مواقعهم ولو بعد حين، فالثورة طيبة لا تقبل إلاّ الطيبين والوسائل الطيبة «فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض».