سيقول بعض الموتورين إن معاناة الفلسطينيين منذ عام هي نتاج فوز حماس في الانتخابات وتشكيلها للحكومة، وهو قول صحيح لو كانت القضية الفلسطينية قضية رواتب وطعام وشراب، الأمر الذي لا يقول به عاقل يؤمن بقيم الكرامة والتحرر من الاحتلال.
ما ينبغي أن يقال ابتداءً هو أن المعضلة المطروحة منذ عام هي واحدة من منتجات اتفاق أوسلو الذي أراح الإسرائيليين من عبء إدارة السكان الواقعين تحت الاحتلال، ويتذكر الجميع أن مشكلة الرواتب ومتطلبات الحياة التقليدية لم تكن مطروحة من قبل، لأنها كانت جزءاً من مسؤوليات الاحتلال، بل إن الكلفة الاقتصادية للاحتلال قبل اتفاق أوسلو كانت تصل حدود الملياري دولار سنويا، بحسب الأرقام الإسرائيلية.
لو كان الفلسطينيون يبحثون عن العيش؛ مجرد العيش المعقول، لتوقفوا عن المقاومة منذ زمن طويل، ولكان بوسع أبنائهم أن يعملوا في الدولة العبرية ويحصلوا على أجور جيدة بدل أن يكونوا رهن السجون والمعاناة، ولكان على الاحتلال، إضافة إلى ذلك، أن يتحمل كافة المسؤوليات التي تفرضها عليه المواثيق الدولية. وللتذكير فقد مرت على الفلسطينيين عقود كانوا يعيشون خلالها في وضع جيد أيام كان العمل الفلسطيني مركزاً في الخارج، باستثناءات محدودة، وقد وصل الحال بالاحتلال خلال السبعينيات حد عرض ما يشبه الحكم الذاتي على الفلسطينيين من خلال ما عرف بتجربة روابط القرى التي انتهت بسبب تدخل منظمة التحرير التي خشيت من سرقة دورها، وهو ما ساندته جميع القوى الحية في المجتمع الفلسطيني.
لنفترض جدلاً أن حماس لم تدخل الانتخابات برمتها واختارت المقاطعة كما كان رأينا ورأي آخرين في الساحة الفلسطينية المساندة لبرنامج المقاومة، أو لنفترض أنها دخلتها ولم تصب جماعة السلطة بداء النزاهة المفاجئة وفازت فتح بالغالبية. ما الذي كان سيحدث في ظل القيادة الجديدة للشعب الفلسطيني بعد قتل القيادة السابقة، من فتح أو السلطة وعلى رأسها ياسر عرفات، ومن حماس كما هو حال الشيخ أحمد ياسين والدكتور عبد العزيز الرنتيسي؟
من المؤكد أن الرواتب لم تكن لتنقطع، لكن معادلة الفساد التي سادت طوال السنوات السابقة، ومعها جميع أشكال المعاناة الأخرى ستتواصل، أما الأهم فهو أن مسلسل التسوية لم يكن ليغادر مربعه القديم، وحيث لن يعرض على الفلسطينيين ما يحفظ ماء الوجه ويمكن أن يوافقوا عليه، كما وقع في قمة كامب ديفيد 2 صيف العام 2000، والنتيجة هي انتفاضة جديدة كما هو الوضع الطبيعي من شعب عظيم مدجج بالكرامة يقع تحت الاحتلال ولا يحصل على حقوقه، أقله في الحد الأدنى الذي تنص عليه قرارات ما يسمى الشرعية الدولية.
ما يجري اليوم هو ذات السيناريو، ومن قابلوا محمود عباس مؤخراً في القدسالمحتلة (كوندوليزا رايس وإيهود أولمرت) هم أنفسهم الذين كانوا سيقابلونه لو كان هو سيد الرئاسة والحكومة في آن، ولن يكون لديهم، كما هو حالهم الآن سوى مطالب الأمن ومكافحة البنية التحتية للإرهاب، ومن بعدها مشروع الدولة المؤقتة الذي جاء به شارون وأسس من أجله حزب كاديما الذي ورثه أولمرت، وصولاً إلى الدولة الهزيلة التي اتضحت معالمها في كتاب الضمانات الذي قدمه بوش لشارون في نيسان عام 2004 وسماه الكثيرون وعد بوش، قياساً على وعد بلفور الشهير.
ما يطلبه الأمريكيون والإسرائيليون من الفلسطينيين لا يمكن أن يمر إلا من خلال تركيع العرب والفلسطينيين، وتذكروا أن احتلال العراق لم يأت إلا بعد القناعة بأن الوضع العربي والفلسطيني القائم غير قابل للتمرير المطلوب، لكن المفاجأة أن الاحتلال الذي أريد له أن يكون محطة تركيع قد تحول إلى محطة استنزاف للأمريكان.
ما يجري اليوم هو لعب على الوقت على أمل أن ينجح الأمريكيون في العراق، وينطلق مشروع إعادة تشكيل المنطقة من جديد، بل ربما كان جزءاً لا يتجزأ من اللعبة، لأن المطلوب هو جر قوى المقاومة إلى تقديم اعترافات مجانية بالعدو بهدف كسر إرادة الشعوب وبث الإحباط في صفوفها، وإلا فما الذي سيترتب على اعتراف حماس بشروط الرباعية سوى استئناف المساعدات وتقديم الرواتب؟ هل سيحصل الفلسطينيون على دولة على الأراضي المحتلة عام 67، بما فيها القدسالشرقية، وتكون كاملة السيادة ويفرج عن المعتقلين، وتجري إعادة اللاجئين إلى ديارهم؟!
لن يحدث ذلك بأي حال، وكل ما هنالك أن مسلسل الاستدراج سيتواصل، فيما لن يقبل الشعب الفلسطيني بهذه اللعبة القذرة وسيعود إلى مربع المقاومة الذي لم يغادره في واقع الحال. ليس ثمة رد على ذلك سوى توحد الفلسطينيين خلف اتفاقهم في مكة، وخائن من يخرج على الاتفاق ويعود إلى مربع الاقتتال من جديد، بصرف النظر عن الموقف الأمريكي الإسرائيلي، لاسيما أن القوى الدولية الأخرى قد وقفت منه موقفاً إيجابياً، أما العرب الذي رعوه فعليهم أن يمنحوه القدرة على النجاح والاستقرار، وإلا فهل سيعجز العالم العربي في ظل فورته النفطية الحالية عن سد احتياجات الشعب الفلسطيني؟!
ما يجري هذه الأيام هو امتحان لإرادة المصالحة لدى القوى الفلسطينية، كما هو امتحان لإرادة الدول العربية التي ساندت اتفاق مكة، إلى جانب كونه امتحاناً لإرادة الاستقلالية لدى العديد من القوى الدولية، ومن هنا لا مجال للتراجع، ومن يفعل سيكون المدان، أياً تكن حججه ومبرراته.
نتذكر ها هنا عبارة حكومة قادرة على فك الحصار، ونحن نجزم بأن حكومة الوحدة المنشودة ستكون قادرة على فك الحصار لو توافرت الإرادة الفلسطينية والعربية، والولايات المتحدة اليوم في أضعف حالاتها وهي لن تكون قادرة على المضي في الحصار إذا أصرت القيادة الفلسطينية على موقفها ولم تطالب بتنازلات جديدة، بصرف النظر عما إذا كان ذلك إيماناً بضرورة التراجع من أجل فك الحصار، أم كان سعيا لاستدراج حماس من أجل تشويهها كمحطة لإقصائها.