«صفقة» لم يشهدها تاريخ القضية الفلسطينية من قبل.. وانتصار مؤزر بلا موقعة حربية.. حققته حركة «حماس» بعد أكثر من خمس سنوات من الجهاد السياسي.. جربت «حماس» خلالها شتى دروب التفاوض، وخبرت ألاعيب الصهاينة وخبثهم ومراوغاتهم وتهديداتهم، وأدركت «حماس» كيف يقف الشقيق في صف عدوها عندما كان يجلس الوسيط المصري المخلوع وهو في الحقيقة وكيل للصهاينة.. عانت خلالها «حماس» من تهديدات «عمر سليمان» وضغوطه المتواصلة للإفراج عن «شاليط» فور اختطافه في 25/6/2006م على أن ينظر مع الصهاينة في الإفراج عن بعض الأسرى.. ولما رفضت «حماس»، قال لهم: (وفق أحد قيادات «حماس» البارزة): «خلاص خلِّلوه»!! ثم قال: «ستدفعون الثمن غالياً»!! وأدركت «حماس» كيف كان ذلك الوسيط العربي يتدخل لإفشال الصفقة كلما كانت قاب قوسين أو أدنى من النجاح.. حتى لا تنتصر «حماس»، وحتى لا يغضب «محمود عباس» ويهتز موقفه.. وتعطلت الصفقة كل تلك السنوات، عسى أن تزول «حماس» أو تنتهي ويخلو الجو ل«مبارك» و«عمر سليمان» و«عباس» ليحصدوا النتيجة ويكون الانتصار لهم.. ويبدو الصهاينة على المسرح كأهل سلام، ويكون «عباس» قد كسب ورقة جديدة تسوغ له الاستمرار في طريق الهرولة والانبطاح للصهاينة، لكن ربك بالمرصاد، فإذا بالأرض غير الأرض، وإذا بكراسي الحكم تتطاير في الهواء وتحمل معها «مبارك» و«سليمان» وكل رجاله ليهووا على أم رؤوسهم مطرودين من حكم مصر؛ {فّلّمَّا جّاءّ أّمًرٍنّا جّعّلًنّا عّالٌيّهّا سّافٌلّهّا}(هود:82)، وإذا ب«عباس» يبقى يتيم الأبوين بعد أن فقد دعم «مبارك» ومساعدات وتكتيكات «عمر سليمان».. وإذا ب«حماس» تخرج من كل المحن التي صنعوها لها أمضى قوة وأصلب عوداً وأكثر رعباً للعدو الصهيوني.. وإذا بصفقة تبادل الأسرى التي تم تعقيدها وإفشالها أكثر من مرة تنجز على يد القيادة المصرية الانتقالية دون عراقيل؛ لأن الكيان الصهيوني فقَدَ رجاله وعناصر قوته الحقيقية بعد سقوط «مبارك» وخصومة تركيا وثورة سورية وغيرها من الثورات العربية.. وبات القرار في المنطقة للشعوب، ولم يعُدْ للحكام المنبطحين مجال. لقد جاء يوم كان الرئيس المصري «مبارك» واللواء «عمر سليمان» يتسابقان في مرضاة الصهاينة على جثث أهلنا في فلسطين، وعلى أشلاء أهلنا في غزة.. كانا يتسابقان لخطْب ودِّ الكيان الصهيوني، فالأول يريد تنصيب نجله «جمال» وريثاً للعرش، والثاني يريد إقناع الصهاينة و«البيت الأبيض» بأنه الأنسب لمصالحهم، ولذلك كان يزيد العيار ضد الإسلاميين في مصر وضد «حماس».. «مبارك» هو الذي قال ل«ساركوزي» حين جاء إلى المنطقة ليحاول وقف مجزرة غزة (27/12/2008م - 18/1/2009م)، قال له مبارك: «إن «حماس» يجب ألا تنتصر في تلك الحرب..»، و«عباس» و«ياسر عبدربه» رفضا وقف الحرب (التلفزيون الصهيوني)، وقد ذكر لي اثنان من قادة «حماس» البارزين أن «عمر سليمان» هو الذي تفاوض مع «حماس» لإنهاء حرب غزة، وواصل اتصالاته وضغوطه على «حماس» لتعلن وقف الحرب بالتزامن مع إعلان الصهاينة؛ حفظاً لماء وجه رئيس الوزراء الصهيوني «إيهود أولمرت»، لكن «حماس» رفضت الضغوط وتأجل إعلان «أولمرت» وقف الحرب مرتين حتى أذعن وأعلن وقف الحرب من جانب واحد، فردت عليه «كتائب القسام» بوجبة من الصواريخ لتقول له: «حماس» مازالت هنا.. تستشهد أو تنتصر! ومن هنا، فلا عجب من أن تنتقد قيادات في السلطة بنود الصفقة، وتتهم «حماس» بأنها ركزت على الإفراج عن منتسبيها قبل الفصائل الأخرى! أليست تلك مماحكات غريبة؟! فقوائم الإفراج التي تضم كل الفصائل ترد على ذلك، ثم بأي سند يتحدث بعض رجال السلطة عن قوائم الإفراج؟ هل لأن «عباس» وضع يده في يد «حماس» ووقف صفاً واحداً للضغط على الصهاينة، أم لأن «عباس» وأجهزته الأمنية تعتقل أكثر من ألفين من رجال «حماس» على خلفية أنهم «مقاومة»!! كنت أتمنى أن يتزامن وصول الأسرى الفلسطينيين للأراضي الفلسطينية مع خروج أسرى «حماس» وفصائل المقاومة من سجون «السلطة».. لكنهم لا يستحون! وإذا كان «عباس» و«فتح» و«السلطة» حريصين على إخراج رجالهم من الأسر، فلماذا لا يقلِّد «حماس» في خطف جندي صهيوني أو أكثر ليفتدوا بهم أسرى فلسطين كلها، خاصة أن الأنباء المؤكدة تكشف أنهم قاموا بتسليم عدة جنود صهاينة انقطعت بهم السبل خلال مطاردتهم لرجال المقاومة في الضفة الغربية، ووقعوا بين أحضان أحبابهم من رجال أمن السلطة فسلموهم معززين مكرمين وفقاً للتنسيق الأمني الملعون بين السلطة والصهاينة، وهو التنسيق الذي حوَّل أجهزة أمن السلطة خدماً لأمن الكيان الصهيوني! ورغم ذلك، فقد نظرت «حماس» وهي تنجز الصفقة لكل الأسرى بمقياس واحد، فركزت على الإفراج عن كل النساء والأطفال وأصحاب الأمراض المستعصية وأصحاب الأحكام العالية بصرف النظر عن انتماءاتهم.. فهل تلام بعد ذلك إذا ركزت على رجالها في بقية الصفقة؟ ومن جهة أخرى، فقد أثبت إنجاز تلك الصفقة قدرة «حماس» الفذة على التفاوض، ونضوجها السياسي، وقدرتها على الصمود السياسي مثل قدرتها الفذة على الصمود العسكري الجهادي الذي شهد به الجميع، ولعل أداءها بعد فوزها في الانتخابات التشريعية، ثم نجاحها في إفشال حملة التأليب ضدها على الصعيدين الفلسطيني والعربي والمحاولات المستميتة لإزاحتها من الساحة، ثم أداءها السياسي خلال حرب غزة؛ يؤكد قدرتها الفذة وكفاءتها في إدارة الصراع والمفاوضات. لقد صدقت حماس وعدها بإنجاز صفقة تبادل الأسرى، وتبديد وهم الغطرسة الصهيونية.