إلى أمّتي التّوّاقة إلى العزّ والسّؤدد والمجد! أمّة السّيادة والشّرف والذّكر والمكانة العالية التي أعلى اللّه تعالى شأنها"لَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ"2... إلى أمّتي الّتي لم تكن شيئا قبل القرآن الكريم والإسلام العظيم! إلى أمّتي التي كانت تائهة فارغة عاطلة سائبة، حيث لم يكن لها غاية في الوجود ولا رسالة ولم يكن لها وظيفة إلاّ في طلب الرّزق كالبهائم تماما! ولم يكن لها من عمل إلاّ تهارشها فيما بينها كالسّباع تماما! إلى أمّتي الّتي لم يكن أحد يحسب لها حسابا أبدا، ويوم أن نزل هذا القرآن العظيم وتمسّكت به الأمّة وعملت به واتّخذته شرعة ومنهجا وصار لها دور التّحرير ورسالة العبوديّة وقالوا تلك الكلمة الخالدة: "متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمّهاتهم أحرارا"، فصارت خير أمّة أخرجت للنّاس، وهابها الجبابرة، وخافها الأكاسرة، واحترمها الأباطرة، وأصبح المفسدون يقرؤون لها ألف حساب، لأنّها شرفت وسادت وعزّت يوم رفعت راية ذلك الدّين عالية خفّاقة، وقالوا تلك المقولة العظيمة الضّخمة الهائلة: "نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام فإذا طلبنا العزَّ في غيره أذلّنا الله". أمّتي العزيزة إنّكِ لن تستطيعي أن تخرجي من الذّلّ والصّغار الذي وقعت فيه، ومن المستنقعات التي فرضت عليك إلاّ بأن تعتزّي من جديد بالانتماء إلى هذا الدّين العظيم، وترفعي رايته خفّاقة عالية، هذه هي الحقيقة: إنّكِ لن تقدري أن تغيّري واقعنا الأليم إلى الأحسن إلاّ بالتّوحيد وإخلاص الدّين كلّه للّه... أمّتي الغالية هذا هو الشّهر الكريم الحبيب شهر الإخلاص والصّدق، على الأبواب وهو فرصتك الجديدة والمتكرّرة من أجل الالتحام بالوحي من جديد وإصلاح الذّات وتزكية النّفس وتطهيرها من كلّ المكبّلات التي عاقتك عن النّهوض والغلبة والعزّة: "إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ "3. أمّتي العزيزة يأتي رمضان ليذكّركِ بما ينبغي أن تكوني عليه... جاءك رمضان بما فيه من النّفحات والخيرات والرّحمات والبركات، فاغرفي منه من الطّاعات وقنطري فيه من الحسنات واعملي فيه من الطّاعات والقربات... أمّتي العزيزة الغالية هذا هو رمضان بما فيه من النّفحات: شهر الوقاية والجُنّة من النّار: "الصّوم جُنّة يستجنّ بها العبد من النّار"23. شهر تبعد فيه عن النّار 2100 عاما: "من صام يوماً في سبيل الله، باعد الله بذلك اليوم وجهه عن النّار سبعين خريفاً". شهر من أعظم أسباب دخول الجنّة: "من قال لا إله إلا الله ختم له بها، دخل الجنّة، ومن صام يوماً ابتغاء وجه الله، ختم له به دخل الجنّة"24. شهر له باب في الجنّة: "إنّ في الجنّة باباً يقال له الرّيّان، يدخل منه الصّائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم"25. شهر يكفّر الذّنوب: " الصّلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، ورمضان على رمضان، مكفّرات لما بينهنّ إذا اجتنبت الكبائر". شهر يمنعك من الوقوع في الذّنوب والتّوحّش: "والصّيام جنّة وإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل ولا يصخب". شهر يساعد العزّاب على قطع شهوة النّكاح: " يا معشر الشّباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج فإنّه أغضّ للبصر، وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصّوم فإنّه له وجاء". شهر يكفّر فتن الأهل والمال والجار: "فتنة الرّجل في أهله وماله وجاره تكفّرها الصّلاة والصّيام والصّدقة."26. شهر ما هو مستكره فيه عند النّاس هو محبوب عند الله: " لخلوف فم الصّائم أطيب عند الله من ريح المسك". شهر فيه يفرح المؤمن الصّائم القائم في الدّنيا ويسعد به ويفتخر به يوم القيامة: "للصّائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربّه". شهر فيه يرفع درجات صائمه في الجنّة أعلى من الشّهيد: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان رجلان من قضاعة أسلما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدهما وأخر الآخر سنة، فقال طلحة بن عبيد الله: فرأيت المؤخّر منهما ادخل الجنّة قبل الشّهيد! فتعجّبت لذلك! فأصبحت فذكرت ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم أو ذكر لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "أليس قد صام بعده رمضان؟! وصلّى ستّة آلاف ركعة؟! وكذا وكذا ركعة صلاة سنة؟!"27. شهر لكلّ ليلة فيه عتقاء: "لله عند كل فطر عتقاء"28. شهر يحظى فيه العابد بالاستغفار والدّعاء من الملائكة: " تستغفر الملائكة للصّائمين حتى يفطروا". شهر لله فيه عتقاء من النّار في آخر ليلة من رمضان كعدد جميع المعتوقين في كلّ ليالي رمضان: "ويغفر لهم أي للصّائمين في آخر ليلة من رمضان. قيل: يا رسول الله أهي ليلة القدر؟ قال: لا، ولكن العامل إنّما يوفّى أجره إذا قضى عمله". شهر الاستكثار من كلمة التّوحيد والاستغفار وسؤال الجنّة والاستعاذة من النّار: " استكثروا فيه أي في رمضان من أربع خصال: خصلتين ترضون بهما ربكم، وخصلتين لا غناء لكم عنهما، فأمّا الخصلتان اللّتان ترضون بهما ربّكم فشهادة أن لا إله إلا الله وتستغفرونه، وأمّا الخصلتان اللّتان لا غناء لكم عنهما، فتسألون الله الجنّة وتعوذون به من النّار". شهر يسمو فيه المسلم فيتخلّى عن الرّذائل ويتحلّى بالمكارم: "من لم يدع قول الزّور والعمل به والجهل فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه"29 " ليس الصّيام من الأكل والشّرب! إنّما الصّيام من اللّغو والرّفث! فإن سابّك أحد أو جهل عليك فقل: إنّي صائم"30، "ربّ صائم حظّه من صيامه الجوع والعطش، وربّ قائم حظّه من قيامه السّهر"31 قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: " إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء". شهر من انتهك حرمتَه فليستعدّ للوعيد الشّديد، والعذاب الأكيد، فعن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "بينما أنا نائم أتاني رجلان، فأخذا بضبعي فأتيا بي جبلاً وعراً، فقالا: اصعد، فقلت: إنّي لا أطيقه، فقال: إنّا سنسهله لك، فصعدت حتّى إذا كنت في سواء الجبل إذا بأصوات شديدة، قلت: ما هذه الأصوات؟ قالوا: هذا عواء أهل النّار، ثمّ أُنطلق بي، فإذا أنا بقوم معلّقين بعراقيبهم، مشقّقة أشداقهم، تسيل أشداقهم دماً، قلت: من هؤلاء؟ قال: الذين يفطرون قبل تحلّة صومهم أي الذين يفطرون قبل غروب الشمس "32. قلت: " هذا الوعيد في حقّ من فطر قبل الوقت، فكيف بمن انتهك حرمة الشّهر كلّه؟ أو من دعا النّاس إلى الفطر، واستخدم سلطاته من أجل انتهاك حرمة هذا الشّهر المعظّم. شهر فيه ليلة من حُرِمها فهو محروم: "إنّ هذا الشّهر قد حضركم وفيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرِمها، فقد حُرِم الخير كلّه، ولا يُحرم خيرها إلاّ محروم"33"...لله فيه ليلة خير من ألف شهر، من حُرم خيرها فقد حُرم"... شهر إذا تحقّق فيه المسلم بحكمته "التّقوى" ضمن الفوز في الدّنيا والآخرة: "إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ"34. شهر إذا صمته فأنت من الصّدّيقين والشّهداء: عن عمرو بن مرة الجهني رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال يا رسول الله! أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله وأنّك رسول الله وصلّيت الخمس، وأدّيت الزّكاة وصمت رمضان وقمته فممّن أنا؟ قال: "من الصّدّيقين والشّهداء"35. شهر يترك فيه المؤمن مشتهيات النّفس حتّى يحسّ بمرارة الجوع والرّأفة والرّحمة بالمحرومين ومن ثمّ كان رسول الله أجود ما يكون في رمضان. شهر يتحرّر فيه المؤمن من المؤثّرات والضّغوط من أجل أن يعطّل فيه آلات الكبر والرّئاسة والطّغيان. شهر تقوى فيه إرادة العابد، ويتقوّى فيه بربّه" لا يردّ القضاء إلاّ الدّعاء". شهر تتوحّد فيه الأمّة بعد اختلافها وتجتمع فيه كلمتهم بعد افتراقها، ممّا يبيّن ويؤكّد أنّ الأمّة لا يمكن أن تتوحّد إلاّ تحت رايتي التّوحيد والوحدة: "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ"36. شهر تتحرّر فيه الأمّة من التّقلّل والحدّ من الاستهلاك وبالتّالي من التّبعيّة الاقتصادية حيث تستعلي فيه عن إشباع غريزة الأكل والشّبع، من أجل ذلك كان الرّسول القائد صلّى الله عليه وآله وسلّم يفطر على تمر وماء... شهر تعلي فيه الأمّة راية الرّوح وتعلن أنّه لا حضارة إلاّ بالتّوازن الدّقيق بين الرّوح والجسد. شهر يتعطّل فيه التّوحّش وتروّض فيه الغرائز العاتية: "البطن والجنس"وهما لا يقفان عند حدّ لأنّ الشّهوات مسعورة يسلّم بعضها إلى بعض: "...ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنّه له وجاء". "ما ملأ ابن آدم وعاء شرّا من بطنٍ". شهر ينسف كلّ مخطّطات المفسدين في الأرض الذين تاهوا عن ربّهم فصاغوا عولمة الثّقافة المادّيّة: ثقافة المتعة والاستهلاك...قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: "أوّل بلاء حدث في هذه الأمّة بعد نبيّها الشّبع، فإنّ القوم لمّا شبعت بطونهم سمنت أبدانهم فضعفت قلوبهم وجمحت شهواتهم". وقال عمر رضي الله تعالى عنه: "إيّاكم والبطنة في الطّعام والشّراب، فإنّها مفسدة للجسد، مورّثة للسّقم، مكسلة عن الصّلاة، وعليكم بالقصد فيهما، فإنّه أصلح للجسد، وأبعد من السّرف، وإنّ الله تعالى ليبغض الحبر السّمين، وإنّ الرّجل لن يهلك حتّى يؤثر شهوته على دينه"، ولذلك قال الإمام الشّافعي رحمه الله تعالى: "ما رأيت بدينا عاقلا إلاّ محمّد بن الحسن الشّيباني". شهر يتدرّب فيه المسلم على التّخلّص من التّفكير في الذّات ويتمكّن من السّيطرة عليها والتّحكّم فيها وعلى تأصيل المحبّة والأخوّة بين المسلمين وعلى البذل والجود: "كان رسول الله أجود الناس بالخير وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السّلام يلقاه في كلّ ليلة حتّى ينسلخ، يعرض عليه النّبيّ القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الرّيح المرسلة"37. شهر التّكافل: "من فطّر صائما كان له مثل أجره غير أنّه لا ينقص من أجره شيء".38، وفي رواية للبيهقي: "قالوا: فإن لم يجد يا رسول الله؟ قال: "تمرة أو شربة ماء"39. شهر التّعهّد الصحّي: " المعدة بيت الدّاء" إنّ المعدة التي تعمل طوال العام بلا كلل وملل ولا نظام تحتاج إلى راحة لتهدأ وتستريح وإلاّ أصابها المرض، ثمّ إنّ الإنسان يدخل جسمه بما يشربه من مياه وما يستهلكه من الهواء الذي يستنشقه معادن ومواد سامّة وأكاسيد الكربون والرّصاص والكبريت وغير ذلك من المواد الملوّثة، وبفضل الله وحمده لا تزول تلك السّموم إلاّ بالصّيام الذي يقوم بصيانة وتنظيف خلايا الجسم بشكل جيّد وفعّال: " وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ"40. شهر له حرمة خاصّة، فيا خيبة من انتهك حرمته: جيء بشارب خمر في نهار رمضان إلى عليّ بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه، فجلده مائة سوط، فقال: "ثمانون حدّ شرب الخمر في غير رمضان، وعشرون ردع له عن انتهاك حرمة الشّهر. شهر تضاعف فيه الأعمال، ولذلك تتضخّم النّافلة فيه إلى فريضة، وتصير العمرة فيه كأجر حجّة مع الرّسول و"من تقرّب فيه بخصلة من خصال الخير كان كمن أدّى فريضة فيما سواه، ومن أدّى فيه فريضة كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه"42. شهر يصلّي الله وملائكته على المتسحّرين فيه: "إنّ الله وملائكته يصلّون على المتسحّرين"43. شهر إذا صمته في الصّيف يورث السّقيا يوم القيامة: عن ابن عباس رضي الله عنهما أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بعث أبا موسى على سريّة في البحر فبينما هم كذلك قد رفعوا الشّراع في ليلة مظلمة إذ هاتف فوقهم يهتف: يا أهل السّفينة! قفوا أخبركم بقضاء قضاه الله على نفسه، فقال أبو موسى: أخبرنا إن كنت مخبراً. قال: إنّ الله تبارك وتعالى قضى على نفسه أنّ من أعطش نفسه له في يوم صائف سقاه الله يوم العطش"44. شهر إذا صمته في الشّتاء فهو الغنيمة الباردة: قال صلّى اللّه عليه وسلّم: " الصّوم في الشّتاء الغنيمة الباردة"45. الصّدقة فيه أفضل من غيره من الشّهور: قال صلّى اللّه عليه وسلّم "أفضل الصّدقة صدقة في رمضان". شهر اللّيالي الفاضلة إذ كلّ لياليه خير ليالي السّنة على الإطلاق. شهر ختمت لياليه الفاضلة بليلتين لا توجدان في غيره: ليلة القدر وليلة العتق. شهر ترغم فيه الأنوف: قال صلّى اللّه عليه وسلّم: " رغِم أنف امرئ أدرك رمضان فلم يغفرله"46. شهر تميّز الأمّة عن غيرها من الأمم: "فصْلُ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السََّّّحر". شهر تعظم فيه محبّة الله عزّ وجلّ لعباده الموحّدين: " قال الله عزّ وجلّ: " أحبّ عبادي إليّ أعجلهم فطرا". شهر يكثر فيه خير الأمّة: "لا يزال النّاس بخير ما عجّلوا الفطر". شهر تكثر فيه البركة: "تسحّروا فإنّ في السُّحُور بركة"متّفق عليه. شهر يشهد ببقاء الإسلام: " لا يزال الدين ظاهرا ما عجّل النّاس الفطر لأنّ اليهود والنّصارى يؤخّرون"47 بمعنى أنّ قوام الحنيفيّة السّمحاء على مخالفة أهل الكتاب وأنَّ في موافقتهم تلفا للدّين. فالحاصل أنّ هذا الشّهر تميّزت به الأمّة واختصّت: قال ابن الجوزي رحمه الله: "شهر رمضان ليس مثله في سائر الشّهور، ولا فضّلت به أمّة غير هذه الأمّة في سائر الدّهور، الذّنب فيه مغفور والسعي فيه مشكور، والمؤمن فيه محبور والشيطان مبعد مثبور، والوزر والإثم فيه مهجور وقلب المؤمن بذكر الله معمور، وقد أناخ بفنائكم هو عن قليل راحل عنكم، شاهد لكم أو عليكم، مؤذن بشقاوة أو سعادة أو نقصان أو زيادة وهو ضعيف مسؤول من عند رب لا يحول ولا يزول يخبر عن المحروم منكم والمقبول فالله الله أكرموا نهاره بتحقيق الصّيام واقطعوا ليله بطول البكاء والقيام، فلعلّكم أن تفوزوا بدار الخلد والسّلام مع النّظر إلى وجه ذي الجلال والإكرام ومرافقة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم". والحاصل كذلك أنّ: "الشّقيّ من حرم في رمضان رحمة الله عزّ وجلّ"لأنّه شهر الغنم والسّبق بالفوز والمغفرة، ولهذا دعا فيه أمين السّماء جبريل على من لم يغتنمه وأمّن على دعائه أمين الأرض محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم: "أتاني جبريل فقال: يا محمّد من أدرك شهر رمضان فمات ولم يغفر له فأدخل النّار فأبعده الله قل أمين فقلت أمين". ولا شكّ أنّ هذا الدّعاء لا يردّ، نسأل الله العافية والسّلامة، لأنّه صدر من أمين السّماء جبريل عليه السّلام وأمّن عليه أمين الأرض محمّد صلّى الله عليه وآله وسلّم. والحاصل كذلك أنّه شهر التّعبئة الشّاملة التي تؤسّس على تكسير النّفس وتضييق مجاري الدّم التي هي مجرى الشّيطان من ابن آدم فتنكسر قوّة الشّهوة والغضب ويقوّي الإرادة ويصلّب ملكة التّقوى ويقوّي لحمة النّظام والاتّحاد بين المسلمين... إنّه متى تعبّأت الأمّة والتحمت بربّها وامتثلت لأوامره مدّهم ربّهم بالانتصارات العديدة المعروفة التي حصلت في رمضان من مثل بدر وفتح مكةالمكرمة، وفتح عموريّة، وهزيمة التّتار في عين جالوت، بدأ فتح الإسلام بلاد الأندلس، معركة "الزّلاّقة"، فتح عكاّ، وغير ذلك كثير جدّا، قال الله عزّ وجلّ: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ"48. فالواجب أن نظهر اعتزازنا وافتخارنا بانتسابنا إلى هذا الدّين العظيم، وأن نصدق في الانتساب إليه بالعمل به والإخلاص فيه فذلك هو أكبر وسيلة إلى ظهور الأمّة من جديد. قال تعالى: "وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ "49، وقال صلّى الله عليه وآله وسلّم"خذوا من العمل ما تطيقون، فإنّ الله لا يملّ حتّى تملّوا "50.