شهادات مؤلمة ينطق بها التونسيين أمام لجنة الاستماع للانتهاكات الجسيمة التى تمت بحق النشطاء والسياسيين والمواطنين من نظام بن على، والتى تذا أيضًا على الهواء مباشرًا، انطلاقًا لمبدأ الشفافية. ويقول سامى إبراهيم وهو أحد ضحايا التعذيب: "جعلوني في زنزانة مع مختل عقلي، إمعانًا في ترعيبي، وكان السجان يضربني وهو يقول لي سنريك هنا حقوق الإنسان التي كنت تطالب بها، وكانوا يتركوننا عراة كل أسبوع في زنزانة واحدة، ويوجهون إلينا الضرب والإهانة، لقد أرادوا تدميرنا". هكذا تحث سامى في إحدى جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات الجسيمة في الفترة ما بين 1955 و2013، خلال عهد الحبيب بورقيبة (1986/1956)، وزين العابدين بن علي (2011/1987)، في خطوة تاريخية دشنتها تونس نحو المصالحة الوطنية. لم يكن سامي إبراهيم سياسيًّا أو ثوريًّا متمردًا، بل كان مجرد مثقف ينشط في مجال حقوق الإنسان، اعتقلته سلطات الأمن التونسية سنة 1991، لتبدأ معه رحلة العذاب طوال ثماني سنوات، بشتى أنواع التنكيل. ويضيق سامي: "السجون التي زرتها كانت أشبه بأبو غريب، فكل شيء فيها متوقع، كأن يتركك عاريًا، ويتبول عليك، أو يضعونك في زنزانة مع شخص مختل عقليًّا، أو يهمون بإخصائك، وكل ذلك تحت الضرب والسب والشتم، الأهم بالنسبة إليهم ألا تكون في وضعية مرتاحة، يريدون فقط أن تشعر بالألم والخوف إلى أقصى حد، أنا أتساءل حقًّا فقط لمَ فعلوا ذلك، لماذا أرادوا انتهاك كرامتي؟". لكن رغم كل ما تعرض له سامي إبراهيم، إلا أنه رفض الإفصاح عن جلاديه، قائلًا: "أنا مستعد أن أغفر لهم بشرط أن يعترفوا، أنا أريد فقط ألا يتكرر ما مررت به مع الأجيال القادمة". شهادات مؤلمة في شهادة آخرى، تحكي زوجة كمال المطماطي: "كان زوجي يعمل مهندسًا في الشركة التونسية للكهرباء والغاز وفي السابع من أكتوبر1991، تم جره من مقر عمله بقابس، وعند مقاومته اعتدى عليه الأمن بالضرب بواسطة قضيب حديدي على رأسه، فأغمي عليه، ثم وضعوه في سيارة ليذهبوا به إلى المركز الأمني بقابس"، حسب ما نشره موقع "ساسة بوست". وتضيف زوجته: "هناك تعرض للضرب المبرح؛ ممّا تسبب له في كسور على مستوى اليدين أدى إلى نزيف في الدماغ، فنصحنا أحد الأطباء الموقوفين بعدم لمسه لأنه بين الحياة والموت، لكن رئيس المركز قال (يمثل عليكم)، وانهال عليه ضربًا إلى أن فارق الحياة، منذ ذلك اليوم لم نر كمال ولم نعثر عليه إلى الآن رغم بحثنا الطويل". ولم تغب شهادات ضحايا ثورة الياسمين عن جلسات الاستماع العلنية، التي تنظمها هيئة المصالحة التونسية، تسرد والدة الشهيد رؤوف إحداها: "في الثامن من يناير 2011، خرج رؤوف لصلاة الجمعة وبعدها شارك في مسيرة سلمية بالرقاب لكنها جوبهت بوابل من الغاز المسيل للدموع، ثم بالكرتوش الحي، أصيب ابني بطلقة ومنعوا إسعافه فبقي ينزف إلى أن فارق الحياة لن نستسلم ولن ننسى، إلا إذا تحققت أهداف الثورة وهي الحرية والكرامة". الحقيقية تمهد للمصالحة وتعد التجربة الأولى من نوعها التي تنظم فيها تونس جلسات استماع علنية وسط حضور الإعلام والمنظمات الحقوقية، يتمكن خلالها ضحايا التعذيب والاختفاء القسري من البوح بقصصهم المؤلمة، التي لطالما ظلت قابعة تحت طي الكتمان. وعُقدت هذه الجلسات يومي 19 و18 نوفمبر 2016، مثّل فيها ما يقارب 15 شهادة لضحايا الانتهاكات الجسيمة، منهم يساريون وإسلاميون، وحقوقيون وصحافيون ونقابيون وطلاب، عبّر كل واحد منهم خلال ساعتين عن تفاصيل حكايته مع الجلاد. وستعقد أيضًا جلسات علنية أخرى في 17 ديسمبر من هذا العام، و14 يناير لسنة 2017. بين الرفض والقبول وكان البرلمان التونسي قد صادق على "قانون العدالة الانتقالية" في 24 ديسمبر 2013، الذي بموجبه تأسست هيئة الحقيقة والكرامة، برئاسة الناشطة الحقوقية سهام بن سدرين، ووفق هذا القانون تتكلف هذه الهيئة بكشف حقيقة انتهاكات حقوق الإنسان، الحاصلة في تونس منذ الاستقلال إلى سنة 2013، من أجل مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات، وتعويض الضحايا، ورد الاعتبار لهم. وتتمثل مهمة هيئة الحقيقة والكرامة في إنجاح مسار العدالة الانتقالية بعد ثورة الياسمين سنة 2011 في تونس، من خلال كشف الحقيقة أولًا بالاستماع لضحايا الانتهاكات الجسيمة ومحاسبة الجلادين، ثم المصالحة، وبعدها جبر الضرر بتعويض الضحايا ماليًّا، وفي الأخير حفظ الذاكرة وإعادة كتابة التاريخ، كل ذلك مفترض إنجازه في ظرف خمس سنوات بداية من زمن ولادة الهيئة عام 2013. وتابع الرأي العام التونسي جلسات المصارحة بكثير من التعاطف مع الضحايا، لما تحمل قصصهم من آلام وأوجاع صادمة هزت الكثير، ممن غاب عنهم حقيقة ما كان يجرى في الزنازين المظلمة. ويتابع باهتمام مئات من الشخصيات السياسية والحقوقية من تونس وخارجها تجربة هيئة الحقيقة والكرامة، التي تعد خطوة فارقة في مسار تونس الانتقالي بعد إطاحة نظام بن علي إبان الثورات العربية، كما تتابع المنظمات الدولية بترقب جلسات الاستماع العلنية في البلد. في هذا السياق، يقول المختص في علم النفس الاجتماعي، مصطفى الشكدالي، حول دلالات جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات الجسيمة في تونس، فأجاب: "أعتقد أن لهذه الخطوة مزايا كبيرة تتجسد في قيمتها الرمزية النفسية، إن هذا البوح هو جبر نفسي للضرر الذي لحق الضحايا حتى لا تبقى المعاناة طي الكتمان، إنه بداية علاج مشكلة الانتهاكات حتى لا تتكرر مع الأجيال القادمة في تونس". وقال عضو هيئة الإنصاف والمصالحة بالمغرب، مصطفى اليزناسني إن "أولى جلسات الاستماع العلنية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان في تونس التي انطلقت هيئة الحقيقة والكرامة في تنظيمها تعد نجاحًا على أكثر من صعيد"، مُوضحًا أن مهمة الهيئة التونسية "ليست بالمسألة الهينة"، بالنظر إلى كونها مدعوة لمعالجة عدد هائل من الملفات في ظرف وجيز نسبيًّا. سهام بن سدرين، المشرفة على مسار العدالة الانتقالية بتونس صرحت بأن "الجلسات تشكل حدثًا تاريخيًّا مهمًا لكل التونسيين، وستدرس للأحفاد والأجيال اللاحقة، وستعزز صورة تونس في العالم كنموذج للتسامح"، قائلةً إن هذه الجلسات ستكون بوابة للاستثمار الخارجية، حيث ستظهر للعالم تحسن الوضع الحقوقي بتونس. من جهتها، أصدرت منظمة العفو الدولية بيانًا، تعتبر فيه تجربة المصالحة الجارية في تونس "فرصة تاريخية لوضع حد للإفلات من العقاب عن الجرائم الماضية، وانتهاكات الحقوق الإنسانية"، منبهة إلى أن تقليد الإفلات من العقاب ما زال يطغى على الواقع على الرغم من التقدم الملحوظ في هذا المجال بتونس. على جانب آخر، تثير التجربة جدلًا في الشارع التونسي حول مصداقيتها، وضمان نتائجها الفعلية، حيث شكّك البعض في قصص الضحايا، فيما وجّه ناشطون انتقادات لاذعة لعمل هيئة الحقيقة والكرامة، أما آخرون فقدموا ملفات للهيئة كضحايا للفقر والتهميش خلال السنوات الماضية، مطالبين إياها بجبر الضرر.