ديفيد هيرست، صحفي بريطاني مخضرم قضى معظم حياته في تغطية الشؤون اللبنانية والفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي، لصحيفة (الجارديان) البريطانية ولصحف عالمية اخرى. وقد صدر له مؤخرا كتاب بعنوان "احذروا الدول الصغيرة، لبنان ساحة حرب الشرق الاوسط"، وهو ثمرة ابحاث وخبرة استمرت لسنوات، ولعله في نفس اهمية كتابه الاول "البندقية وغصن الزيتون"، الذي تحدث عن نشوء حركة المقاومة الفلسطينية وحقبة قيادة الرئيس الراحل ياسر عرفات.
وقد وصفه آنذاك الكاتب الكبير ادوارد سعيد بانه "الصحفي الذي كرس حياته للعيش والكتابة عن العالم العربي".
الكتاب الجديد الصادر بالانجليزية عن دار "فابر وفابر" يشمل 15 فصلا وما يزيد عن اربعمئة صفحة، وكل فصل من فصوله يمكن اعتباره كتابا او وثيقة تاريخية بحد ذاتها، ولذلك سنركز في هذا العرض على الفصول المتعلقة بالحرب اللبنانية الاهلية ما بين الاعوام 1975 و1990، وعلى الفصل الثاني الذي تطرق الى علاقة الصهيونية العالمية، بالمارونية السياسية اللبنانية، لانهما يتضمنان معلومات وتحليلات فريدة في اهميتها، مع ان العرض يبقى ناقصا من دون الفصول الاخرى عن مجزرة صبرا وشاتيلا (الفصل السابع) وصعود دور الشيعة وحزب الله (الفصول 8 10) في لبنان وفصول هامة اخرى.
في الصفحة (103) من الفصل الخامس بعنوان "الحرب الاهلية في لبنان" يقول هيرست ان "الصراع في لبنان في منتصف السبعينات لم يكن فقط حول مستقبل لبنان ولكن حول مستقبل منطقة الشرق الاوسط برمتها، وموقع اسرائيل فيها" ولعل هذا الوضع مستمر ومرتبط بسائر الصراعات والحروب التي اندلعت في الشرق الاوسط والعالم الاسلامي بعد الحرب الاهلية اللبنانية والتي قد تندلع في المستقبل.
ويضيف هيرست في الصفحة نفسها قائلا: 'حتى منتصف السبعينات كل ما حققته عمليات السلام، التي اشرفت عليها الدول الغربية الداعمة للصهاينة، كان المزيد من عمليات السلام وتراكم اللف والدوران مما ادى الى التأخير في تحقيق النتائج الفاعلة والتوصل الى الاهداف التي يسعى للوصول اليها "والتي هي شبه مستحيلة التحقيق في ظل عالم عربي يرفض وجود اسرائيل والاعتراف المتبادل بين اسرائيل وفلسطين بقبول كل منهما للآخر وبقبول متبادل بين اسرائيل وجيرانها. وكل ما تم التوصل اليه كان ترتيبات مرحلية ومؤقتة ادت الى استمرار المشكلة بدلا من حلها. وبالتالي قررت اسرائيل انه اذا لم يكن بامكانها ان تحظى باعتراف الفلسطينيين والعرب بواسطة العملية السلمية فستحصل عليه بواسطة العنف".
ويعتبر هيرست بان مساهمة الدولة الصهيونية الاساسية في اشعال الحرب الاهلية اللبنانية في السبعينات "تندرج في خطة مؤسس دولة اسرائيل ورئيس وزرائها الاول ديفيد بن غوريون الساعية الى انشاء دولة لبنان المسيحية وتحويلها الى الحليف الرئيسي لاسرائيل، والقضاء على التوجه القومي العربي لدى اللبنانيين عموما وتحويل الشرق الاوسط الى مجموعة من الاقليات الدينية والطائفية والاثنية تفرض اسرائيل هيمنتها عليها". (ص 104).
ويستخلص هيرست انه من "المنطلق الاسرائيلي لم تعدل الحروب تندرج في المفهوم الاخلاقي للشر وتجاوز الاخلاقيات بل على العكس اصبحت الحروب وسيلة لتحقيق الاهداف السياسية السامية بحسب هذا المنطق الاسرائيلي". وهذا المنطق لسوء الحظ ما زال ساريا حتى الساعة ولذلك تبقى الدول المجاورة للكيان وفي طليعتها لبنان وسورية معرضة لخطر هجوم عسكري صهيوني لاشعال الفتنة.
وبالنسبة للدور السوري في لبنان، تحت قيادة الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد يعتبر هيرست ان الاسد الاب خشي ان يخسر الورقة الفلسطينية في لبنان وان يصبح لبنان تحت قيادة الاحزاب اليسارية والقومية المتحالفة مع المسلمين اللبنانيين وان يتحول الى جمهورية ثورية على شاكلة جمهورية كوبا بقيادة فيديل كاسترو في امريكا اللاتينية ويشكل بالتالي خطرا على جميع الانظمة العربية، وان يؤدي ذلك الى تصعيد المواجهة العسكرية مع الصهاينة ولهذا قرر الاسد الاب عدم السماح بهزيمة شاملة للمارونية السياسية في لبنان (ص 112 113).
ولعل هذا المنطق بدوره ينطبق على الاوضاع الحالية اذ ان النظام السوري الحالي لا يرغب بزوال شامل للقوى المحافظة المسيحية والاسلامية في لبنان، وهيمنة توجه احادي على حساب التيارات الاخرى.
وهكذا يقول هيرست "ارسلت سورية جيشها الى لبنان لضبط تقدم المقاومة الفلسطينية المتحالفة مع الاحزاب الوطنية اللبنانية" مما ادى الى الحفاظ على خصوصية الاقليات في لبنان و"فوجئت القيادات الغربية ازاء هذا الموقف السوري الذي لم تدرك ابعاده آنذاك". (ص 113 114).
وفي النهاية يقول هيرست "نجح التدخل الدبلوماسي العربي" في التوصل الى وقف اطلاق نار في لبنان في عام 1976 كرّس قوات الردع العربية بقيادة سورية حامية لجميع الاطراف في الحرب الاهلية اللبنانية.
وفي الفصل الثاني عن الصهيونية والمارونية السياسية اللبنانية يقول هيرست "ان الصهاينة خسروا ما يوازي ثلاثة ارباع ما وُعدوا فيه في وعد بلفور بعد تأسيس دولة لبنان الكبير، وضم الاراضي الساحلية والجنوب اللبناني الى هذه الدولة. فقد كانوا قد وضعوا نياتهم وانظارهم على الاستيلاء على المناطق الحدودية في لبنان وسورية وفلسطين. وفي مؤتمر فرساي للسلام طالبوا بضم مناطق الجولان السورية وجنوب لبنان من المنطقة الممتدة من جنوب البقاع اللبناني حتى صيدا وصور في الجنوب. واستندوا في ذلك الى منظارهم التاريخي الاحادي التوجه. وبعد ذلك اعتمدوا شراء المصانع الصغيرة لانتاج زيت الزيتون وغيره في الجنوب اللبناني، املا في الاستيلاء على الصناعة والتجارة في تلك المنطقة". (ص 23).
وحسب هيرست، انقسم الموارنة اللبنانيون في مواقفهم ازاء الصهاينة في فترة الانتداب الفرنسي، وشجعت فرنسا الموارنة المؤيدين للاستقلالية عن المبادرات الصهيونية، برغم وجود جهات مسيحية رغبت بتوثيق هذه الروابط واستمر هذا الانقسام الى ان توصل اللبنانيون الى الميثاق الوطني اللبناني ورجحت كفة الرئيس اللبناني بشارة الخوري على معارضيه.
ولكن حسب هيرست ايضا، فان "بقايا هذا الانقسام استمر خلال الحرب الاهلية اللبنانية"، وربما ما زال موجودا بشكل او بآخر حتى الان. كما ان اطماع تل أبيب بالاستيلاء على الجولان السوري وعلى اجزاء من جنوب لبنان ربما بدورها ما زالت موجودة لدى بعض الجهات الصهيونية الحاكمة حاليا.
ولهذا السبب يكتسب كتاب ديفيد هيرست اهمية خاصة في ظل الاوضاع الحالية، وهو مرجع هام من الضروري قراءته للمهتمين بشؤون الشرق الاوسط ولبنان وفلسطين وسورية.