«لأن تأتي متأخرا خير لك من ألا تأتي مطلقا» ربما هى المقولة الأقرب لوصف واقع "النخبة السياسية" فى مصر فى الوقت الحالي، بعدما استفاقت متأخرة من سكرة الانقلاب العسكري لتتبرأ منه وتنضم إلى ركب المطالبين برحيله عن سدة الحكم وعودة العسكر إلى ثكناته واستعادة مكتسبات ثورة ال25 من يناير بترسيخ دولة ديمقراطية تبنى قواعدها على أسس الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية أو على الأقل تبرير الصمت على الانتهاكات والاعتذار عن السكوت على جرائم الجنرالات. الأمر بطبيعة الحال لا يعني الاتفاق فى الرؤى مع تلك النخب أو النزول إلى قواعد مشتركة خاصة أن البون شاسع وكبير بين أنصار الشرعية والسابقين الأولين فى لفظ الانقلاب العسكري وبذل النفس فى النفيس فى سبيل مواصلة الحراك الثوري ومواجهة آلة القمع ومليشيات الداخلية والظهير القضائى، لتمرير الانقلاب وتبرير فاشيته وتحجيم وتقويض المعارضة، وبين من يناضل على مواقع التواصل الاجتماعي ويجاهد فى الفضائيات ويتحرك فى ميدان الواقع الافتراضى. إلا أن الاعتراف بالحق يبقى هو الفضيلة التي نخلص إليها. ودون الدخول فى نوايا من تراجع عن تأييد الانقلاب العسكري وقائده الفاشل، أو اعتبار من خرج لينتقد عبيد البيادة ولاعقيها بأنه محاولة للقفز من السفينة التي أوشكت على الغرق، أو عودة إلى الجحور خشية أن ينالهم غضبة الثوار التي أوشكت على الوصول إلي غايتها، أو أنه محاولة انقلابية لإيجاد معارضة مصطنعة على عينها، إلا أننا نبحث عن حالة عامة من الغضب تمتد من الشارع حيث البسطاء والمطحونين إلي النخب التي احتلت ساعات الهواء لتروج لعودة الفرعون ووأد الديمقراطية الوليدة في مهدها. الشواهد تدلل على أن ركب الانقلاب يتساقط منه الكثير يوميا، ويكتسب أعداء جددا وينضم إلى ركب مناهضيه أنصارا ومناؤين، كانوا فى السابق داعمين ومفوضين ومؤيدين، بل وشاركوا فى تضليل الناس وتزييف المشهد وقلب الحقائق، وباتت رقعة العداء للحكم العسكري تزداد والغشاوة التي حجبت الرؤية عن أعين المغيبين تزول، وهو نذير بنصر قريب وثورة جديدة وانتفاضة تصحيح. سكوت حمزاوي الناشط والمحلل السياسي د. عمرو حمزاوي –البرلماني السابق وأستاذ العلوم السياسية- خرج ليكشف اللثام عن قطاع عريض ممن كفر بانقلاب السيسي ولكنه لزم الصمت واختار السكوت كرها، خشية آلة القمع وتلفيق الاتهامات ومواجهة أحكام جائرة تصل إلى إزهاق الأرواح، رغم أنه ملأ الدنيا صخبا وضجيجا على أتفه الأمور فى عهد الحرية الحقيقي والوحيد فى تاريخ مصر أبنا حكم الرئيس الشرعي محمد مرسي. حمزاوى اعترف –عبر مقال نشرته صحيفة "الشروق"، تحت عنوان "عن الخوف ومقاومته"- أنه صمت عن المظالم والانتهاكات، خوفاً على أمن واستقرار وسعادة أسرته وعلى سلامته الشخصية، وتجاهل الضرورة الأخلاقية والإنسانية والمجتمعية التى يمثلها التضامن مع الضحايا والانتصار لحقوقهم، أو إلى مقاربة تناول المظالم والانتهاكات بميكانيكية المهمة التى يتعين الاضطلاع بها لإبراء الذمة والاحتفاظ بشىء من المصداقية والأهم بهدف التخلص من العبء النفسى الذى تنتجه. وتابع: "أوظف هذه الزاوية مرة واحدة فقط للكتابة عن حالات الاختفاء القسرى المتكررة لمصريات ومصريين من الشباب، ثم أعهد بالأمر إلى خانات النسيان تطويه دون أن تكون مصائر بعض المختفين قد عرفت ودون أن تكون استعادتهم لحقوقهم وحرياتهم قد تمت ودون أن تكون إجراءات مساءلة ومحاسبة المتورطين فى هذا الانتهاك المروع قد حدثت". وواصل البرلماني السابق اعترافته: "أقاوم هذا الخوف اليومى اللعين على أمن واستقرار وسعادة أسرتى وعلى سلامتى الشخصية الذى يلح على لطرق أبواب منافى العمل والحياة والحرية فى الخارج مجددا، وللبحث عن ملاذ آمن نلتحق فيه أنا وزوجتى وابنتنا ناديا بولديى لؤى ونوح، ونلم شمل أسرة لم تكن وضعيتها بالسهلة خلال السنوات القليلة الماضية شأننا شأن بعض الأصدقاء الذين نفذوا أو فرض عليهم غول التهديدات القمعية أو سيف العقوبات الغيابية تنفيذ سيناريو «الابتعاد المؤقت» وانسحبوا من الشأن العام المصرى، أو قرروا مواصلة الاشتباك مع قضاياه عبر التعبير الحر عن الرأى ويجتهدون قولا وكتابة عن بعد فى المطالبة السلمية بإيقاف المظالم والانتهاكات وفى طرح رؤى وأفكار نقدية حول سبل وتحديات وفرص استعادة مسار تحول ديمقراطى وتنمية مستدامة لمصر.. فى مقالة محصلتها فى النهاية أن مصر السيسي لا تملك فيها سوي الصمت خوفا أو فلتسعك سجون العسكر. مبادرة أبو الفتوح لا خلاف على أن د. عبد المنعم أبو الفتوح –رئيس حزب مصر القوية- كان أحد أبرز الداعمين لانقلاب 30 يونيو على شرعية الصناديق، إلا أنه لم يجد له موقعا فى رقعة شطرنج الانقلاب وخرج من مولد العسكر دون حمص، وهو ما أجبره على تبني مواقف متذبذة والركون إلى خطاب ركيك مهتز خرج به من حظيرة العسكر إلى غير رجع ليصبح ملفوظا من الجميع. إلا أن الدكتور أبو الفتوح وباعتباره أحد أضلاع معسكر 30 يونيو، خرج بمبادرة مفاجئة للخروج من الأزم الحادة التى تعصف بالوطن وأصر عليها وتمسك بها، وإن شكك البعض فى نواياها، إلا أنها وبتجرد كامل توافقت مع العديد من الدعوات السابقة المشابهة لعدد من رموز العمل السياسي وعلى رأسهم د. أيمن نور –مؤسس حزب غد الثورة-، وتدور حول إجراء انتخابات رئاسية مبكرة ومفتوحة خلال عام واحد، والإفراج عن المعتقلين، وتعيين رئيس حكومة جديد على أن يكون شخصية توافقية مستقلة غير منحازة، ومحاسبة المتورطين في انتهاكات حقوق الإنسان منذ 30 يونيو وإلى الآن. وشملت بنود المبادرة الإفراج الفوري عن كافة المعتقلين ب"الحبس الاحتياطي" غير المدانين في قضايا ما يسمى ب"الإرهاب" والتورط فى سفك الدماء، والفصل الفوري في الإجراءات التعسفية، مثل المنع من السفر والتحفظ على الأموال. وتشمل "الرؤية" محاكمات سريعة لكل من تورط في انتهاكات حقوق الإنسان سواء في السجون أو في أقسام الشرطة، أو في قتل أو إصابة متظاهرين سلميين، والتوقف التام عن إصدار قوانين في ظل غياب السلطة التشريعية، ووقف العمل بكل القوانين المخالفة للدستور ولمواثيق حقوق الإنسان. إلا أن تلك الرؤية أو المبادرة ربما تعرضت للوأد فى مهدها خاصة لعدة أسباب، أهمها يتعلق بدكتور عبد المنعم أبو الفتوح شخصيا وعلاقته المتوترة بجميع الأطراف فى ظل تذبذب موقفه الشخصي والحزبي من بيان 3 يوليو، إلا أنها تكشف التراجع عن تأييد الانقلاب على الشرعية وطرح مبادرة تهدف لإبعاد السيسي عن المشهد. نشطاء «الحظاظة» لم تكن الزوبعة التي أثارها الناشط وائل غنيم هى الأولى وبالطبع لن تكون الأخيرة، إلا أن الشاب الذي اعتبره البعض أيقونة ثورة يناير خرج ليتبرأ من الانقلاب ويطالب بمواصلة الحراك الثوري من أجل انهاء حكم العسكر. غنيم خرج عن صمته –الذى طال كثيرا- خلال قمة Rise Up التى نظمتها مؤسسة "فيوجن" الأمريكية فى العاصمة واشنطن، قائلا: "إن مصر ليست فى حالة كنا نطمح أن نراها عليها.. لكن هناك شيئا ما مفاده أن التغيير يمكن أن يكون تدريجيا، وأن الثورات عمليات مرحلية، ومن أجل هذا ينبغى أن نستمر فى النضال من أجل القيم". تصريحات غنيم المطالبة بمواصلة الحراك، سبقها انتقادات من الفنان خالد أبو النجا –أحد أبرز الوجوه المشاركة فى ثورة 25 يناير- للانقلاب العسكري والتأكيد على فشل السيسي فى إدارة شئون البلاد، وحجم الفساد والاستبداد الذى استشرى فى كافة مفاصل الدولة، فى سيناريو معاد لنظام مبارك الذي خلعه الشعب من أجله. بالطبع لم تمر مقولة أبو النجا مرور الكرام فأطلق الانقلاب زبانيته أمام الكاميرات لكيل الاتهامات القذرة والسباب المهين للفنان الشاب ومن يدعمه أو يؤيده، بل وصل الأمر إلي ملاحقته بتمهة الخيانة العظمي، وبلاغ آخر لترحيل الفنانة هند صبري بتهمة تأييد أبو النجا، مع أن كل ما قالته أنه تدعمه فى حقه الدستوري فى التعبير عن الرأي. وعلى خطى أبو النجا، سار الفنان محمد عطية بالتنديد بحكم العسكر وممارساته الفاشية، ورد على منتقدي معارضته للانقلاب العسكري واتهمامه بركوب الموجة، بتغريدة -عبر "تويتر"- قائلا "الناس اللى بتقول انت بتعارض وبتركب الموجة.. ده كلامى يوم ما السيسي نجح في الانتخابات.. أنا ضده من يوم التفويض". وأعاد عطية نشر تغريدة سابقة توضح موقفه، قال فيها: إنت بتطلب مني ألغي دماغي وأقبل بواقع رجوع حكم العسكر.. وأطلع أقول بقى الكلمتين بتوع الشعارات والجو ده.. آسف.. يسقط يسقط حكم العسكر". وما بين انقلاب 3 يوليو واليوم، تغيرت مفاهيم الكاتب والسيناريست بلال فضل من دعم مطلق لقائد العسكر وملاحقة من يصف ما حدث ب الانقلاب، إلى هجوم حاد ولاذع على السيسى ووصفه ب"أبو فلاتر" والسخرية من "اهتزازه"، والمطالبة برحيل العسكر عن حكم مصر، دون أن ينسى التبرأ من الإخوان حتى يبقى فى مأمن من المداهمات. خاصة وأن آلة التشويه والقمع الانقلابية لم تترك أخضر أو يابس إذا ما اقترب أحد من الخطوط الحمراء، فكان التشهير من نصيب أبو النجا وهند وكان المنع من نصيب مطرب الثورة الخلوق حمزة نمرة الذي اعتبرته الإذاعة المصرية معاديا للنظام ومن ثم وجب منع أغانيه من البث رسميا وعلى النهج نفسه، سار الناشط أحمد حرارة، الذى خرج ليؤكد أن النخب فى مصر سكتوا مجبرين عن مذبحة رابعة العدوية، والتي قتل خلالها العسكر –على حد تعبيره – 1200 نفس، منتقدا قمع الحريات وتكميم الأفواه وانهيار حقوق الإنسان وعودة حكم العسكر، كما خرج ممدوح حمزة بانتقادات حادة للسيسي على وقع الانحراف عن مسار 25 يناير قطار العائدين إلى رشدهم وصل إلى محطات بعض النخب التي تبقي مذبذبة بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، فجاءت تصريحات على استحياء تنتقد الوضع برقة ونعومة خشية أن يطولها أذي أو تغيب عنها السبوبة أو تبتعد عنها الأضواء ويطويها النسيان، فضمت محمد البرادعي ووحيد عبد المجيد وحسن نافعة، ذلك الأخير الذي استنكر أنه كان يستدعى للبرامج التليفزيونية أسبوعيًا، لكن هذا لم يعد يحدث الآن، لمجرد أنه اعتبر حكم حل حزب الحرية والعدالة يضر بالحياة السياسية في مصر. حالة الانقلابيين من محاولة النجاة بأنفسهم من مستنقع السيسى لخصها المستشار وليد شرابي فى تغريدة عبر "تويتر"، قائلا: "بدأ البعض يقفز من المركب ويتحدث عن الثورة ويعيب في حكم العسكر وهذا لا يعني تعاطفه مع الثورة أو انتفاضة الشباب المسلم ،ولكن يعني أن التخطيط قد بدا في كيفية احتوائها في حالة نجاحها".