تشهد الساحة السياسية التركية جدلًا محمومًا يبدو معتادًا في مثل هذه الأوقات إلا أنه صار اليوم أكثر حدة، فغدا الأحد الموافق 7 يونيو، يتجه أكثر من 56 مليون ناخب تركي للمشاركة في انتخاب البرلمان الخامس والعشرين في تاريخ البلاد، الذي ربما يكون أحد البرلمانات الفارقة في تاريخ الجمهورية التركية الحديثة. 1- ماذا نعرف عن التاريخ البرلماني لتركيا؟ يطلق عليه أيضًا اسم الجمعية الوطنية الكبرى، وهو الهيئة التشريعية في تركيا، والمخولة بإقرار الدستور وتعديله، تأسس في شكله الحالي في عام 1920، إبان ما يعرف بحرب الاستقلال في تركيا ضد دول الحلفاء، يتكون البرلمان من 550 عضوًا مقسمين على 85 دائرة في 81 محافظة تركية، تحوي كل منها على دائرة انتخابية واحدة باستثناء إسطنبول التي تحتوي على 3 دوائر، وأنقرة وأزمير وتحوي كل منهما دائرتين. أسست تركيا البرلمان الأول في تاريخها في عام 1877 في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، وكان يعرف بالمجلس العمومي، وأعطى القانون الأساسي السلطان صلاحية الدعوة لإجراء الانتخابات، وكان البرلمان مشكلًا من غرفتين هما مجلس النواب ومجلس الأعيان، أُغلق هذا المجلس رسميًّا في 11 أبريل 1920 بسب احتلال إسطنبول بعد خروج الدولة العثمانية مهزومة من الحرب العالمية الأولى وتوقيعها على اتفاقية مودرس لوقف الحرب. تنص المادة رقم 108 من الدستور التركي، على إجراء الانتخابات كل أربع سنوات تحت إشراف الهيئات القضائية. 2- ما هي أهم الحقائق المتعلقة بالبرلمان التركي القادم؟ أولًا: يشارك في الانتخابات القادمة 20 حزبًا من إجمالي 31 هي عدد الأحزاب السياسية في تركيا، يتنافسون لحصد حصتهم من بين 550 مقعدًا هي عدد مقاعد البرلمان التركي. ثانيًا: يشترط قانون الانتخابات في تركيا تخطي أي حزب سياسي لعتبة انتخابية تبلغ 10% من الأصوات حتى يكون ممثلًا داخل البرلمان، بمعنى أن أي حزب يحصل على أقل من 10% من إجمالي عدد الأصوات لن يكون ممثلًا في البرلمان ويتم إسقاط المقاعد التي حصل عليها في سائر الدوائر. ثالثًا: تشهد هذه الانتخابات لأول مرة مشاركة حزب الشعوب الديموقراطية الكردي بوصفه حزبًا سياسيًّا مستقلًا في الانتخابات (في السابق شارك بعض أعضائه كمستقلين على قوائم أخرى)، ويعتبر المراقبون الحزب بمثابة رمانة ميزان الانتخابات التركية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى إمكان حصوله على ما بين 8- 11% من أصوات الناخبين، وتأمل المعارضة التركية في أن يتخطى الحزب حاجز ال10% لكسر هيمنة الحزب الحاكم. رابعًا: تحمل هذه الانتخابات أهمية لكونها تأتي بعد سلسلة أزمات مرت بها تركيا كان أبرزها عملية 17 ديسمبر ومن قبلها احتجاجات ميدان جيزي، إضافة لكونها الأخيرة في سلسلة استحقاقات انتخابية حسمها الحزم الحاكم لصالحه بدأت بالانتخابات البلدية ثم الرئاسية وأخيرًا هذه الانتخابات البرلمانية التي ستحدد من سيهيمن على المستقبل السياسي لتركيا خلال السنوات الأربع القادمة. 3- ما هي أهم الأحزاب المشاركة في الانتخابات المقررة غدًا؟ من بين الأحزاب المشاركة: هناك 4 تكتلات رئيسية تتنافس في الانتخابات القادمة في تركيا: أولًا: حزب العدالة والتنمية “داوود أوغلو” الحزب الحاكم والمسيطر على السلطة في البلاد منذ أكثر من 12 عامًا، والذي يطمح في تأمين أغلبية مريحة تضمن له تحقيق ثلثي مقاعد البرلمان، تأسس في عام 2001 بقيادة الرئيس التركي الحالي رجب طيب أردوغان ووصل إلى السلطة بعد مرور عام على تأسيسه، ونجح في بسط هيمنته عليها عبر 3 استحقاقات انتخابية برلمانية في عام 2002 (14.4% من الأصوات) وفي عام 2007 (46.5% من الأصوات) و2011 (49.9% من الأصوات) إضافة إلى الانتخابات الرئاسية التي حسمها في أواخر عام 2014 بنسبة تقارب 52% من الأصوات من الجولة الأولى. يخوض الحزب الانتخابات الجديدة تحت عناوين عدة، لعل أبرزها وأكثرها أهمية هو الإصلاح الدستوري والديموقراطي، حيث أعلن الحزب عن نيته طرح مشروع دستور جديد لتركيا تتضمن أبرز بنوده التحول من النظام البرلماني الحالي إلى النظام الرئاسي، أما ثاني أهم هذه العناوين فهو مشروع تركيا الجديدة 2023 تزامنًا مع ذكرى مئوية تأسيس الجمهورية التركية. يخوض الحزب الحاكم هذه الانتخابات بعد هزات متتالية تعرض لها، بداية من اتهام 4 من وزرائه بالتورط في قضايا فساد كبرى (لم تثبت تهم بشأنهم) إلى الاضطرابات المتتالية التي شهدتها البلاد في الأشهر الأخيرة، إلى الصراع المفتوح والعلني بين الحكومة وجماعة كولن (أحد أبرز الداعمين السابقين لها) وحتى ربما الصراع الداخلي بين بعض كوادر الحزب كمثل الصراع الذي دار بين نائب الرئيس بولند أرينتش ورئيس بلدية أنقرة مليح غوكتشاك. أما أصعب هذه التحديات فكون الحزب يخوض هذه الانتخابات وقد قرر التمسك بلائحته الداخلية التي تمنع احتفاظ العضو بعضوية البرلمان لمدة أكثر من 3 دورات، ما يعني بالضرورة خروج 70 من كبار كوادر وركائز الحزب من النواب والوزراء المعروفين والدفع بأوجه جديدة ليست معروفة جماهيريًّا، إضافة إلى ذلك فإن هذه هي المرة الأولى التي يخوض الحزب فيها الانتخابات دون وجود أردوغان على رأسه. ثانيًا: حزب الشعب الجمهوري “كليدار أوغلو” حزب يساري، من أقدم الأحزاب التركية، تأسس في عام 1923 على يد مصطفى كمال أتاتورك، وهو حزب علماني وغالبًا ما يتهم الحزب الحاكم بنقض المبادئ العلمانية التي قامت عليها الجمهورية التركية، وهيمن الحزب بمفرده على الحكم حتى عام 1950 قبل أن يشارك في عدة حكومات ائتلافية. يرأس الحزب كمال كليدار أوغلو، ويعد الحزب هو أبرز أحزاب المعارضة في تركيا وأكثرها شعبية. ثالثًا: حزب الحركة القومية “دولت بهجلي” حزب يميني يتبنى مبادئ القومية التركية، تأسس عام 1969 على يد ألب أرسلان توركش، ويرأسه دولت بهجلي، ويعد الحزب أبرز المعارضين لعملية التسوية السلمية مع الأكراد. رابعًا: حزب الشعوب الديموقراطي “صلاح الدين ديمرطاش” تأسس عام 2012، ويعد هو الذراع السياسي لحزب العمال الكردستاني الذي خاض صراعًا مسلحًا كبيرًا مع الحكومة خلال العقود الماضية، وانضم إليه عدد من النواب الأكراد في البرلمان، وهي المشاركة الرسمية الأولى لحزب كردي في الانتخابات النيابية. ويعتبر المراقبون الحزب بمثابة رمانة ميزان الانتخابات التركية، حيث تشير استطلاعات الرأي إلى إمكان حصوله على ما بين 8- 11% من أصوات الناخبين، ويحظى الحزب بدعم كبير من رفقائه في المعارضة باعتبار دخوله إلى البرلمان يسهم في إضعاف قبضة العدالة والتنمية. 4- ما الذي تقوله استطلاعات الرأي بشأن الانتخابات؟ تخضع استطلاعات الرأي في تركيا غالبًا لتشكيك كبير من مختلف المتنافسين، وتتهم بالتوظيف لأغراض سياسية، حيث تظهر استطلاعات الرأي فوارق ملحوظة فيما بينها وبعضها البعض، على سبيل المثال تتراوح حصة حزب العدالة والتنمية وفقًا للاستطلاعات ما بين (40% إلى 47%)، بينما تتراوح نسبة حزب الشعب الجمهوري ما بين 25% إلى قرابة 29%، وتتراوح تقديرات الاستطلاعات لحزب الشعوب ما بين 8% إلى قرابة 12%، ولحزب الحركة القومية ما بين 14 إلى 18%، هذه الفوارق كفيلة بإحداث فوارق ضخمة في النتائج المتوقعة. على سبيل المثال، تحقيق نسبة دون ال10% بالنسبة لحزب الشعوب تعني إقصاءه تمامًا من التمثيل البرلماني بما يصب مباشرة في مصلحة الحزب الحاكم، بينما دخول الحزب إلى البرلمان تزامنًا مع أكثرية ضعيفة للحزب الحاكم قد يضطر العدالة والتنمية إلى البحث عن حكومة ائتلافية، وقد يمنح المعارضة فرصة (نظرية) للائتلاف والسيطرة على الحكومة، لذا يبدو أن النتائج الحقيقية ستنتظر إلى بدايات عمليات فرز الصناديق. 5- ما هي العناوين الكبرى للمنافسة بخصوص البرلمان القادم؟ أولًا: يبدو مشروع الدستور الجديد هو أكبر هذه العناوين، في عام 2007، تم إقرار تعديلات دستورية تضمنت انتخاب الرئيس بالاقتراع المباشر، وتم انتخاب رئيس لتركيا من الشعب مباشرة في أغسطس الماضي، وفي أعقاب انتخابه أعلن أردوغان أنه لن يقبل أن يكون رئيسًا شرفيًّا ما ولد فعليًّا تداخلًا بين صلاحيات رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، لن يخفي أردوغان رغبته في تحويل تركيا إلى النظام الرئاسي بسبب معاناتها التاريخية مع غياب التوافق داخل الائتلافات الحاكمة حال فشل حزب في تأمين حكومة بمفرده (وهو الأغلب في التاريخ السياسي التركي)، وهي المشكلة التي قد تتجلى بصورة أوضح حال انتخاب رئيس وزراء ورئيس الدولة من حزبين متعارضين. وفقًا للدستور التركي، يحتاج البرلمان إلى موافقة ثلثي أعضائه (367 عضوًا) لأجل إقرار تعديلات دستورية بشكل مباشر، وإلى موافقة 60% من الأعضاء (330) عضوًا حتى يتم تمرير التعديلات عبر استفتاء شعبي، يسعى العدالة والتنمية لتأمين النسبة الأخيرة على الأقل حتى يتمكن من تمرير رؤيته للدستور. يتحكم في قدرة الحزب على تحقيق هذه الرغبة عاملان، أولهما قدرته على رفع نسبة تصويته إلى أقصى حد ممكن، والثانية مدى قدرة حزب الشعوب الكردي على تخطي الحاجز الانتخابي، لأنه، ووفقًا للقانون التركي، فإنه في حال فشل الحزب في تخطي الحاجز فإن أصوات الحزب المستبعد توزع على الأحزاب الفائزة في نفس الدائرة الانتخابية، بما يعني أن أغلبها سيذهب للعدالة والتنمية الذي يعد أفضل الخيارات للأكراد بعد حزب الشعوب. ثانيًا: تخوض أحزاب المعارضة الانتخابات باعتبارها استفتاء جديدًا على شعبية أردوغان الذي تعتبر أنه خرج عن الأعراف التقليدية لحياد رئيس الجمهورية بالدعوة إلى انتخاب حزبه، كما تعتبر هذه الأحزاب قدرتها على تحقيق نتائج جيدة في هذه الانتخابات هي الطريقة المثلى لتحجيم صلاحيات أردوغان كرئيس. ثالثًا: الملف الكردي يعتبر أحد الملفات الشائكة أيضًا، وبالرغم من أن مصلحة العدالة والتنمية لتمرير مشروع الدستور الجديد تكمن في ألا ينجح حزب الشعوب في تخطي الحاجز الانتخابي إلا أن ذلك يعني غياب تمثيل الأكراد في البرلمان القادم، ما قد يسبب انتكاسة للمراحل المتقدمة من عمليات إتمام اتفاق سلام نهائي مع الأكراد، وربما عودة نسبية للعمل المسلح ما قد يقابله تنامي نفوذ القوميين الأتراك، لذا يبدو أن مصالح الحزب الحاكم في الانتخابات القادمة تتعارض مع بعضها البعض. رابعًا: جددت هذه الانتخابات الجدل حول الحاجز الانتخابي الذي أعلنت أحزاب المعارضة أنها ستسعى لتطبيقه حال نجاحها في الانتخابات. لقد تم إقرار حاجز 10% في السياسة التركية في عام 1983، بعد انقلاب 1980. وقبل عامين، حاول حزب العدالة والتنمية الحاكم الحد من هذه العتبة، وقد اقترح أحد بديلين للبرلمان، كان الأول إزالة حاجز ال10%، وإدخال نظام الدائرة الواحدة (التمثيل المباشر). وكان الاقتراح الثاني تقليص الحاجز إلى 3- 5% والتمثيل الإقليمي الضيق. لكن أحزاب المعارضة رفضت كلا الاقتراحين، ودعا حزب الحركة القومية إلى إبقاء النظام القائم، وأقر حزب الشعب وأقرت القوائم الحزبية القائمة، وهكذا ظل الحاجز في مكانه على غير رغبة الحزب الحاكم، ليأتي اليوم الذي ربما يلعب فيه الحاجز لصالحه ضد خصومه. خامسًا: تأوي تركيا أكثر من 2 مليون لاجئ سوري على أراضيها، كانت قضية اللاجئين أحد العناوين الكبرى للمنافسة الانتخابية، أكد الحزب الحاكم استمرار سياسته في دعمة اللاجئين إن كان سيسعى لمحاولة ضبط الأوضاع بشكل أكبر خصوصًا في المنطقة الحدودية، ويبدو أن الحزب بدأ يدرك أن استضافة هذا العدد من السوريين أربكه في حين يتبنى حزب الشعوب الكردي موقفًا مماثلًا لتدعيم نظرته التعددية، ولكون الكثير من أكراد سوريا متواجدين حاليًا في تركيا. على العكس، تتبنى أحزاب الشعب الجمهوري والحركة القومية موقفًا مناهضًا للاجئين في تركيا، ويحملونهم مسؤولية بعض المشاكل الاقتصادية المستحدثة كغلاء العقارات والبطالة، إضافة إلى المشاكل الأمنية، وقد صرح كمال قليشدار أوغلو رئيس حزب الشعب الجمهوري بأنه سيسعى إلى إعادة السوريين إلى بلادهم إذا ما انتصر حزبه في الانتخابات التركية. الموقف ربما لن يقتصر على مسألة اللاجئين فسياسة تركيا التي تعمد مؤخرًا للمزيد من التدخل لإزاحة نظام الأسد قد لا تبدو مقبولة لدى المعارضة التي تريد أن تتبنى حلولًا أقل حدة وتتهم الحزب الحاكم بتوريط الدولة التركية في صراعات، لذا يرجح خبراء أن سياسة تركيا تجاه الملف السوري ربما تشهد تغييرات تتوقف على حجم تمثيل المعارضة في البرلمان القادم. 6- ما هي السناريوهات المتوقعة للانتخابات؟ وفقًا لورقة مركز الجزيرة للدراسات تحت عنوان “الانتخابات البرلمانية التركية .. المتنافسون والتوقعات” فإن السيناريوهات المتوقعة قد تنحصر فيما يلي: تبدو فرصة إقصاء العدالة والتنمية عن الحكومة شبه منعدمة، ففي حال فشل حزب الشعوب في تخطي الحاجز الانتخابي فإن هذا سيعني تلقائيًّا أن حزب العدالة سيحصل على أغلبية تمكنه من تشكيل الحكومة بمفرده كما أن سيؤمن بسهولة عدد ال330 مقعدًا اللازمة لطرح الدستور للاستفتاء العام. حال نجح حزب الشعوب في تخطي الحاجز الانتخابي فإن ذلك يعني أن على العدالة والتنمية أن يحقق أعلى نسبة ممكنة من الأصوات حتى يضمن تشكيل حكومة بمفرده دون اللجوء لخيار الائتلاف، وهو ما يعني تأجيل طرح ملف الدستور والنظام الرئاسي. لا تبدو فرصة تشكيل ائتلاف ثلاثي بين أحزاب الشعوب والحركة القومية والشعب الجمهوري قائمة إلا بشكل نظري نظرًا للتباين الشاسع بينهما، يكفي الحديث عن توجهات حزب الحركة القومية المعادية للأكراد وحزب الشعوب الساعي للبحث عن قدم سياسي للأكراد للبرهنة على أن ائتلاف من هذا النوع ربما سيفشل قبل أن يبدأ.