“إن أوروبا تواجه أزمة اقتصادية، وهي تتسبب في توتر المناطق التي تشكل نقاط ضعف كامنة، منذ زمن طويل”. – جون بروتون، رئيس وزراء أيرلندا الأسبق ازداد زخم الدعوات الانفصالية في أوروبا، منذ الأزمة المالية، بداية من 2008 وإلى الآن. وعلا صوت المطالبين بالاستقلال عن دولهم بالقارة العجوز، بخاصة مع سياسات التقشّف التي فرضها الاتحاد الأوروبي على الدول الأكثر تأثرًا بالأزمة المالية. ورغم أن القارة الصغيرة، ذات الخمسين دولةً سيادية، تشهد منذ أمدٍ دعوات انفصالية لأقاليم داخل دول، فيما لا يُعتبر حدثًا جديدًا تمر به أوروبا، إلا أنه مع الأزمة الاقتصادية العاصفة، تغذت تلك الدعوات، بل تمددت إلى غير دولة. وفي هذا التقرير، نعرض لنماذج أخذت فيها مطالب الاستقلال والانفصال منحى تصاعديًّا، على خلفية تدهور الوضع الاقتصادي، بصورة يرى عديد من المراقبين، أنها – ربما- تكون بداية لتفتت القارة العجوز، وانهيار اتحادها. في البدء كانت إسبانيا! في ثلاثينيات القرن الماضي، وعلى أثر تأسيس ما عرف بالجمهورية الإسبانية الثانية (1931)، منحت السلطة المركزية الحكم الذاتي لثلاثة أقاليم: كاتالونيا، والباسك، وغاليسيا، قبل أن تدار البلاد، لاحقًا، بنظام الأقاليم ذاتية الحكم، مكونةً من 17 إقليمًا. لكن قبل ذلك، وتحديدًا إبان فترة حكم فرانشيسكو فرانكو (1936)، أُلغي العمل بنظام الحكم الذاتي في الأقاليم الثلاثة، ثمّ اندلعت أحداث الحرب الأهلية الإسبانية، في الفترة ما بين 1936 إلى 1939، مودية بحياة أكثر من نصف مليون شخص، قبل أن يستتب الأمر تمامًا لفرانكو، ويُخضع أنحاء إسبانيًا لحكمه، بما فيها الأقاليم الثلاثة. (أخضع فرانشيسكو فرانكو (الثاني من اليمين) إسبانيا لسيطرته، بعد أن خاض حربًا أهلية لثلاث سنوات) منذ ذلك الحين، وحتى بعد أن قسمت البلاد إلى أقاليم ذاتية الحكم، وحققت مجتمعةً ازدهارًا اقتصاديًّا، ونتائج مرتفعة في مؤشرات الرخاء والرفاهية، إلا أن نبرات الانفصال لم تخبُ تمامًا، وكانت تطفو على السطح ما بين الحين والآخر، حتى برزت الأزمة الاقتصادية، ليعلو صخيبها، بعد أن وُجِدَ المبرر، وتحديدًا في كل من كاتالونيا، والباسك. كاتالونيا: يعتبر الكاتالونيون أنفسهم قومية مستقلة، تتمتع بثقافة وتراث ولغة تعبّر عنهم. فضلًا عن ذلك، كتالونيا هو الإقليم الأغنى في إسبانيا، إذ إن مساهمته في موازنة الحكومة المركزية (التي يعاد توزيعها إلى المناطق الأكثر فقرًا)، تصل إلى نحو 23 مليار دولار، أي ما يزيد عن 8% من إجمالي الناتج القومي للإقليم. “هذا النظام في توزيع الثروة، ولّد استياءً كبيرًا لدى الكاتالونيين… وفي الفترة الأخيرة، ومع ازدياد الضرائب، وإجراء تدابير تقشّف صارمة من الحكومة الإسبانية، تنفيذًا لمطالب الاتحاد الأوروبي؛ كلّ هذا فاقم من حالة الاستياء لدى الكاتالونيين، وازدادت النزعة الانفصالية لدى اليمينيين واليساريين على حد سواء، حتى إن 57% من أبناء الإقليم يدعمون دعوات الانفصال”. – الصحفي والمؤرخ ميشا جليني في 2012، بدأت تظاهرات مليونية داعية للانفصال، تجوب شوارع الإقليم، انطلاقًا من عاصمته برشلونة. في تلك الفترة، ومن بعدها، زادت حدة الأصوات المنادية بالانفصال عن الحكومة المركزية في مدريد، وكانت أعلام “الاستقلال” ترفرف في سماء الإقليم، حتى اتفقت أحزابه في ديسمبر 2013، على إجراء استفتاء بين الكاتالونيين لتقرير المصير، في نوفمبر 2014. خلال تلك الفترة، تجاذبت الصحافة الإسبانية، والعالمية، الأمر من عدة أطراف، من بينها، طرح تساؤلٍ شغل الرأي العام: “إذا استقل الإقليم، هل ستلعب برشلونة في الدوري الإسباني ثانيةً؟”، ليجيب من جانبه، ساندرو روسيل، رئيس اتحاد نادي برشلونة، بالتأكيد على استمرار ناديه في الليجا: “لن يصبح العالم طبيعيًّا إذا لم يشهد مباريات بين ريال مدريدوبرشلونة”. فيما نددت الحكومة الجمهورية بالقرار، وسعت حثيثًا لإخماد الفكرة بكافة الطرق. وأخيرًا، ورغم أن نحو ثلاثة أرباع الكاتالونيين يدعمون قرار الانفصال، بحسب استطلاعات رأي عديدة، إلا أن حكومة الإقليم، قررت التخلي عن فكرة الاستفتاء في شهر أكتوبر، السابق لشهر الاستفتاء الذي كان مزمعًا. لكن وحتى الآن، لم تهدأ الأصوات المطالبة ب”دولة أوروبا الجديدة”، كما كان المتظاهرون الكاتالونيون يهتفون. الباسك: لم يسلم إقليم الباسك (شمالي إسبانيا) هو الآخر من دعوات انفصالية ممتدة عبر التاريخ، وبخاصة مع حكم فرانكو، وانطلاقًا منه إلى الآن، ليضاف إلى مبررها، آخرٌ متعلق بالأزمة الاقتصادية، التي خلّفت كسادًا في الإقليم الصناعي. لم يصل الباسك بعد إلى مرحلة الاستفتاء، لكنه مرّ بما هو أكثر جذرية من ذلك، على يد حركة “إيتا”، التي نظّمت عملًا مسلحًا مطالبًا بالانفصال، منذ 1961، عبر استهداف مؤسسات ومقار حكومية، الأمر الذي أودى بحياة ما يقرب إلى ألف شخص، قبل أن تعلن المنظمة تركها للعمل المسلح في 2011. الإعلان الذي لم يخرجها عن لوائح المنظمات الإرهابية، سواءً لدى أوروبا أو أمريكا. وبعد أن رفض البرلمان الإسباني في 2005، مشروع قانون لانفصال الإقليم، قدّمه برلمان الإقليم، قررت حكومة الباسك، تأجيل قضية الانفصال، إلا أن الشعب الباسكي، الذي يُعد متوسط دخل الفرد فيه، الأعلى في إسبانيا (32 ألف يورو) لم يقرر بعدُ تأجيلها. “إن هذه المجموعات السكانية، تريد أن تسيطر على مقدراتها الاقتصادية”. – الخبير الاقتصادي اللبناني محمد حيدر إيطاليا.. من الشمال إلى الجنوب تشهد إيطاليا، ما يمكن تسميته ب”الحراك الانفصالي” على صعيدين، شمالًا وجنوبًا، ولكل منهما خلفيته وأسبابه الدافعة لتصعيد المطالبة بالاستقلال عن روما، ففي الجنوب تنادي صقلية بالانفصال، بينما في الشمال تتصاعد الأصوات الانفصالية في كل من البندقية والتيرول. صقلية: الجزيرة الأكبر في البحر المتوسط، وإقليم إيطالي يتمتع بحكم ذاتي، إلا أن شبح الإفلاس، بات يخيم على أجوائها الاقتصادية. وعلى الرغم من أن فكرة الانفصال عن إيطاليا، فكرة أصيلة في الجزيرة منذ زمن، إذ إن سكانها، يعتبرون إيطاليا تحتل ما كانت مملكتهم. إلا أن نبرة الاستقلال خمدت، قبل أن تشتعل مرة أخرى، على أثر تداعيات الأزمة الاقتصادية، وزيادة معدلات البطالة والفقر، في حين تصاعد دور المافيا وجرائمها المنظمة، ليقود حزب حركة استقلال صقلية، مطالب الانفصال، باعتبارها الحل الوحيد لتجنب تدهور الوضع الاقتصادي والسياسي والأمني في الجزيرة. التيرول: تقع المدينة شمال إيطاليا على جبال الألب. جزء منها نمساوي، والآخر، الواقع تحت السيطرة الإيطالية، يتحدث أكثر من ثلثيه بالألمانية. “إن أبرز الحركات الانفصالية (الأوروبية)، ظهرت في المناطق الأكثر ازدهارًا في بلدانها”. – فاينانشيال تايمز وهذا ما ينطبق على التيرول، المقاطعة الغنية بالنفط، إذ وصل الأمر إلى ارتفاع أصوات من أبناء المدينة، تطالب بشراء حريّتها من “الهيمنة الخارجية الإيطالية”، مقابل 15 مليار يورو، وهو نصيبها في ديون إيطاليا، التي تربو على 2 تريليون يورو! البندقية: في مارس 2014، أبرزَ استفتاء شعبي عبر الإنترنت، أن إقليم فينيتو، وعاصمته البندقية، أكثر الأقاليم الراغبة في الاستقلال، إذ صوّت نحو 89% من أبنائه لصالح الانفصال عن إيطاليا. الاقتباس السابق يُعبّر أيضًا عن البندقية، التي تعتبر من أغنى مدن إيطاليا، فيما يحاول سكانها، التخلص من عبء ديون إيطاليا. وبينما يدفع أبناء البندقية ما قيمته 70 مليار يورو ضرائب، فإنهم لا يحصلون سوى على 50 مليار يورو فقط، خدمات من الحكومة المركزية. “نحن نخسر 20 مليار يورو كل عام لصالح الحكومة المركزية، وهذا بالطبع يمثل عبئًا ثقيلًا على خمسة ملايين شخص فقط”. – لودوفيكو بيتزاتي، زعيم حزب استقلال فينيتو أثرياء بلجيكا: لن نتحمّل أعباء الفقراء! تنقسم بلجيكا لثلاثة أقاليم إدارية، فبالإضافة إلى إقليم بروكسل العاصمة، هناك إقليم فلامندي الشمالي، وإقليم والون الجنوبي. لكل من الإقليمين الشمالي والجنوبي، عرقية ولغة مختلفة، لكن لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ لكل منهما توزيعة اقتصادية تختلف عن الأخرى، نمّت بدورها الحسّ الانفصالي لدى الفلاندر سكان الإقليم الفلمندي الثري. يبلغ متوسط دخل الفرد في الإقليم الفلامندي نحو 34 ألف يورو، بينما متوسط دخل الفرد في الإقليم الجنوبي يبلغ 25 ألف يورو فقط. ولا تتعدى معدلات البطالة في الإقليم الشمالي 8.4%، في الوقت الذي تعاني فيه باقي أنحاء بلجيكا من معدلات بطالة تفوق 11%، ومع دين عام بلجيكي بلغ نحو 105% من إجمالي الإنتاج، يجد سكان الشمال أنفسهم عرضة للتورط في تحمّل أعباء الجنوبيين، ما دفع أكثر من 40% من الفلاندر (سكان الإقليم الفلامندي) إلى تأييد دعوات الانفصال عن بلجيكا.