الأولوية الفلسطينية القصوى الآن هى لتعزيز الوحدة الوطنية باستكمال عاجل لتنفيذ كل ملفات المصالحة، من دون مماطلة أو تهرب أو خضوع لضغوط خارجية، على قاعدة الشراكة الوطنية، والمقاومة لقد بدأ وانتهى العدوان العسكرى الثالث الذى شنته دولة الاحتلال الإسرائيلى على قطاع غزة خلال السنوات الست الماضية بتخييرها الرئيس محمود عباس بين "السلام مع إسرائيل"، وبين الوفاق مع حركة حماس، كعنوان للمقاومة الفلسطينية. فرئيس وزراء دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو فى خطابه يوم الثلاثاء الماضى جدد دعوته لعباس للاختيار بين الأمرين عندما قال: "إنه سوف يكون "سعيدا" بأن "يستعيد" الرئيس عباس سيطرته على قطاع غزة إذا ما "اختار السلام" مع دولة الاحتلال، وإلا سوف يكون التوصل إلى "حل متفاوض عليه" للصراع مع الفلسطينيين "مستحيلا". وكان نتنياهو قد بدأ العدوان الأخير فى الضفة الغربية لنهر الأردن، انطلاقا من الخليل فالقدس وانتهاء بقطاع غزة، على قاعدة معارضته للمصالحة الفلسطينية وحكومة الوفاق الوطنى التى انبثقت عنها، بإعلان إصرار حكومته على إجهاض المصالحة، وحل حكومة الوفاق. أى أن نتنياهو لا يترك مجالا لأى شك فلسطينى فى أن الهدنة المفتوحة التى أعلنت الثلاثاء الماضى، إنما كانت انتهاء لمعركة جديدة واحدة فى حرب عدوانية مستمرة منذ أوائل القرن العشرين الماضى على الشعب الفلسطينى، وسوف تتجدد معاركها إن عاجلا أو آجلا، ما يجعل تعزيز الوحدة الوطنية الفلسطينية استحقاقا استراتيجيًّا، وليس محطة تكتيكية عابرة. وتشير كل الدلائل الفلسطينية حتى الآن إلى التمسك بوحدة الصف الوطنى، وإنهاء الانقسام بانتظار التوافق على استكمال آليات التوحد على استراتيجية وطنية تعزز هذه الوحدة، وتضمن استمرارها وعدم انفراطها. وفى هذا السياق جاء تأليف وفد فلسطينى موحد للتفاوض غير المباشر بوساطة مصر على وقف العدوان الأخير، وتأكيد البيان الصادر عن اجتماع القيادة برئاسة عباس يوم الثلاثاء الماضى على وضع "خطة وطنية لإنهاء الاحتلال"، ودعوته إلى المزيد من الوحدة الوطنية، ودعوته فى المناسبة ذاتها إلى "تمكين" حكومة الوفاق الوطنى من القيام بعملها، إضافة إلى تأكيد كل قادة المقاومة فى القطاع، وخارجه على ضرورة تمتين الوحدة الوطنية على قاعدة المقاومة، والشراكة فى المرحلة المقبلة. لكنه ليس سرًّا أن هذه الوحدة ما زالت هشة، وما تسرب عن الوفد الموحد المفاوض فى القاهرة أكد الجهود المشتركة التى بذلت لاستمرار التوافق على الحد الأدنى، وليس سرا كذلك وجود مدرسة سياسية فلسطينية تتعامل مع إنهاء الانقسام تكتيكيًّا، ووجود طابور خامس فلسطينى مستفيد من الانقسام ومتضرر من الوحدة ينتظر فرصة سانحة لإعادة عقارب الساعة الفلسطينية إلى الوراء. أما السر المكشوف الأكبر، فقد عبر عنه بيان وزير الخارجية الأميركى جون كيرى فى السادس والعشرين من هذا الشهر، عندما عدّ الهدنة "مجرد فرصة" و"لحظة اغتنام الفرصة"؛ لبحث كيف يمكن لوقف دائم لإطلاق النار أن يوفر المجال، والفرصة؛ لمعالجة القضايا طويلة الأمد ... تضع حدًّا لشن الهجمات بالصواريخ وقذائف الهاون ... من حماس والمنظمات الجهادية الأخرى ... إذا أردنا التوصل إلى حل طويل الأجل لغزة". لطالما كرر القول قادة اللجنة الرباعية الدولية ل"السلام فى الشرق الأوسط" (الولايات والأمم المتحدة والاتحادان الأوروبى والروسى): "إن الحصار الذى تفرضه دولة الاحتلال على قطاع غزة "لا يمكن أن يدوم، لكنهم لم يفعلوا شيئا لرفعه، وسط لامبالاة عربية فاضحة حولت الجامعة العربية إلى متفرج عديم الإحساس بالموت البطيء الذى ينهش فى لحم أقل من مليونين من أشقائهم فى القطاع المحاصر". وقد تمكنت المقاومة الآن بصمودها وإبداعها والتضحيات الجسيمة لحاضنتها الشعبية من وضع رفع الحصار على جدول الأعمال الدولى، بعد أن "تجاوز النقطة التى يمكن أن يكون فيها مقبولا لمدة أطول"، كما كتب المحلل الإسرائيلى جيرشون باسكين فى "الجروزالم بوست" العبرية يوم الأربعاء الماضى. لكن أولئك القادة، ومعهم "المتفرجون" فى "معسكر السلام العربى" يريدون الآن مبادلة رفع الحصار بتجريد الشعب الفلسطينى من كل إمكانيات الدفاع عن نفسه لمقاومة الاحتلال، ودولته التى تفرض الحصار، كما يتضح من تفاصيل مشاريع القرارات الأوروبية والأميركية المقترحة؛ لاستصدار قرار بذلك من مجلس الأمن الدولى. إن المطالب الإنسانية الذكية التى طلبتها المقاومة للتوصل إلى التهدئة قد حظيت بإجماع فلسطينى وعربى ودولى، فى الأقل؛ لأن هذه المطالب جميعها استحقاقات على دولة الاحتلال لم تنفذها بموجب الاتفاقيات الموقعة مع منظمة التحرير الفلسطينية، ومنها فتح معابر القطاع والممر الذى يصله مع الضفة الغربية والميناءين البحرى، والجوى، إلخ، لكن الخطورة تكمن فى ارتهان تنفيذ هذه المطالب لمبادلتها بتجريد الشعب الفلسطينى من وسائل الدفاع عن النفس، بقدر ما تكمن فى عدم التعامل معها كاستحقاقات منفصلة عن أى رؤية لمواصلة البحث عن تسوية سياسية نهائية بالتفاوض. وما يجعل الأسابيع القليلة المقبلة مرحلة بالغة الخطورة، هو التقاطع بين الرؤية السياسية للرئاسة الفلسطينية، وبين لحظة اغتنام الفرصة ... لمعالجة القضايا طويلة الأمد" فى الرؤية الأميركية، فهذا التقاطع يهدد بارتهان تنفيذ المطالب الفلسطينية؛ للتوصل إلى اتفاق نهائى بالعودة إلى المفاوضات التى تتفق الرؤيتان على البحث عن سبل استئنافها. فالرئاسة الفلسطينية حسب ما أعلنت تخطط لاستئنافها بالتوجه إلى الولاياتالمتحدة بطلب الاعتراف بحدود دولة فلسطين تمهيدا لاستئناف المفاوضات مع دولة الاحتلال على أساسها، وبالتوجه إلى مجلس الأمن لاستصدار قرار بجدول زمنى لانسحاب قوات الاحتلال تمهيدا لإنهائه بالمفاوضات على أساسه، ولأنها تتوقع الرفض الأميركى للتوجهين. فإنها تستعد للتوجه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها المقبلة فى نوفمبر للغرض ذاته، وتهدد بالانضمام لمعاهدة روما ومحكمة الجنايات الدولية فى حال فشلت هذه التوجهات فى استئناف المفاوضات كما هو متوقع. إن أى استئناف للمفاوضات بمرجعياتها السابقة التى تجاوزتها الأحداث أو فى إطار التوجهات الجديدة المعلنة لحركة الرئاسة الفلسطينية قبل استكمال آليات اتخاذ القرار الفلسطينى طبقا لاتفاقيات المصالحة الوطنية، ومن دون مشاركة وطنية لفصائل المقاومة فى إدارة المرحلة المقبلة، وفى اعتماد أية توجهات جديدة، وفى معزل عن البناء على نتائج صمود المقاومة وتضحيات حاضنتها الشعبية فى مواجهة العدوان الأخير على القطاع، إنما يهدد بإسقاط وحدة الصف التى تجسدت خلال العدوان على أرض المقاومة قبل أن تتجسد فى وفد مفاوض، ليهلل لها الشعب الفلسطينى كمقدمة لتوحيد الاستراتيجية الفلسطينية، ويمنح جون كيرى وإدارته "الفرصة" التى يريدها، ناهيك عن تخفيف الضغط الإنسانى الدولى على دولة الاحتلال بمنحها مهلة زمنية تسعى لها. والجميع يتساءلون الآن: ماذا بعد؟ إن الأولوية الفلسطينية القصوى الآن، هى لتعزيز الوحدة الوطنية باستكمال عاجل لتنفيذ كل ملفات المصالحة، من دون تلكؤ أو مماطلة أو تهرب أو خضوع لضغوط خارجية، على قاعدة الشراكة الوطنية، والمقاومة التى عمدت وحدة النضال الوطنى بدماء الشهداء الغزيرة التى لن تغفر لأحد أية ذرائع أو حجج للتراجع عنها. وعلى القاعدة الصلبة للوحدة فى إطار المقاومة والشراكة فقط يمكن التوافق على استراتيجية تخرج النضال الوطنى. من دوامة الفشل التى كانت تدور فيها منذ انطلاق ما سمى "عملية السلام" عام 1991، فالوحدة الوطنية استحقاق استراتيجى لا محطة تكتيكية؛ لأنها السلاح الأمضى للتعويض عن العجز العربى، والضمانة الأقوى لإلزام دولة الاحتلال بتنفيذ بنود اتفاق التهدئة المقرر استكمال مفاوضاته فى القاهرة بعد شهر، والإطار الجامع للتوافق على استراتيجية وطنية بديلة، والأرضية الصلبة لمواصلة النضال من أجل تقرير المصير والتحرير والاستقلال. إن ما أنجزته الحرب على مدى خمسين يومًا فى غزة هو استعادة مفهوم أن المقاومة المسلحة هى الطريق نحو الوحدة الفلسطينية، وذلك بالضبط هو ما كان يحتفل به الغزيون والفلسطينيون حول العالم"، كما كتب الصحفى البريطانى ديفيد هيرست يوم الأربعاء الماضى. * كاتب عربى من فلسطين.