بقلم: د. أحمد مصطفى أخيرا قام توني بلير ، مبعوث الرباعية الدولية ، بزيارة لقطاع غزة قبل توجهه الى مؤتمر اعادة اعمار غزة في شرم الشيخ بساعات. ومنذ تعيينه مبعوثا للرباعية (التي تضم اميركا وروسيا والاتحاد الاوروبي والامم المتحدة) قبل نحو عامين، لم يقم رئيس الوزراء البريطاني السابق بأي مهمة ذات معنى ولم ينجز شيئا على الاطلاق في منصبه الذي يكلف مئات الآلاف من الدولارات تنفق على زياراته للقدس واقامته مع مرافقيه وحراسه في أفخم الفنادق. ولان الرجل غير متفرغ للمهمة، وسط محاضراته التي يقبض في الواحدة منها ما يقارب ربع مليون دولار ومهامه كمستشار لواحد من اكبر بنوك الاستثمار العالمية، فلم يكن لديه الوقت ليخفف القيود على حاجز واحد في الضفة الغربية. ولأن وقته الضائع الذي يعمل فيه مبعوثا للشرق الاوسط خسارة ، فقد أسس بلير شركة جديدة هي "توني بلير أسوشييتس" لتقديم المشورة والنصح للحكام. وحصل بلير على اول عقد لشركته من الكويت ليضيف الملايين الى نحو 20 مليون دولار جمعها بالفعل منذ تركه منصبه. المثير للسخرية ان شركة بلير الجديدة تنصح عملائها بشأن الحكم السليم وحسن الادارة، في الوقت الذي شهدت فيه فترة حكم بلير في بريطانيا أسوأ ممارسات في الحكم انتهت به لينفرد بالسلطة تقريبا مع مجموعة من المستشارين متجاهلا الحكومة والحزب حتى وصفه الاعلام "الرئيس بلير" لطريقته في الحكم المطلق. وهكذا استنفد بلير معظم وقته الضائع، لكنه يظل مبعوث الرباعية لذا قرر في حركة مسرحية اعلامية ان يقوم بزيارة غزة قبل مشاركته في مؤتمر شرم الشيخ. وحظيت الزيارة بتغطية اعلامية واسعة، ونقلت وسائل الاعلام عن مبعوث الوقت الضائع تصريحات خطيرة اعرب فيها عن ان غزة عانت من دمار كبير وتحتاج الى دعم لاعادة الاعمار (أرأيتم حجم إبداع المبعوث والقيمة المضافة التي توفرها وظيفته!!!). وبالطبع كان الاعلام الغربي، والبريطاني تحديدا، اكثر توسعا في نشر اخبار المبعوث. ومن هنا اهتمامي به، ولانه ايضا ظل نحو عقد من الزمان رئيسا للحكومة ندمت على التصويت له مرة في انتخابات عامة. القصد من تذكر توني بلير هو الاشارة الى ان ما يسمى "الرباعية" والجهود العالمية كافة لا تختلف كثيرا عن هذا الرجل وسلوكه خلال عامين من مهمته: انحياز كامل لاسرائيل وتصريحات لفظية "خيرية" تجاه الفلسطينيين والعرب. صحيح ان غزة بحاجة للمساعدات العاجلة للحد من آثار الدمار الذي خلفته المحرقة الصهيونية، وان اي جهد للمساهمة في ذلك محمود ومشكور. لكن المشكلة ان موقف اطراف الرباعية من هذا الجهد الانساني هو سياسي اولا واخيرا، وكل هدفه هو تأمين انصياع الفلسطينيين والعرب للمتطلبات السياسية والامنية الاسرائيلية في حال التفاوض على تسوية. وهنا يمكن اعتبار بلير نموذجا، فالرباعية التي تبنت "خريطة طريق" أميركية وتعهدت بالعمل على تخفيف معاناة الفلسطينيين لم تكلف نفسها حتى احصاء وعد انتهاكات الاحتلال الصهيوني في الضفة الغربية وقطاع غزة. فالاستيطان لم يتوقف وهدم منازل الفلسطينيين ومصادرة أراضيهم وعمليات القتل والاعتقال والطرد والتشريد لا تتوقف يوميا. وجدار الفصل العنصري يتواصل تمدده في اراضي الفلسطينيين، بل واحيانا في قلب بيوتهم بينما الرباعية ومبعوثها ومعها كافة الاطراف الاخرى مشغولون بتصريحات وبيانات قوية من قبيل "الصحراء بها كميات كبيرة من الرمال" كما تمخض بلير فقال في غزة. واذا كان ذلك حال الرباعية في ظل حكومة اسرائيلية سابقة فلا توجد صعوبة في توقع مواقفها في ظل حكومة يمينية متطرفة اكثر عنصرية وارهابا في اسرائيل. بالطبع ستتخلى الرباعية عن الخمول وعدم الفعل لتقوم بدور نشط في الضغط على الفلسطينيين والعرب كي يزيدوا من تنازلاتهم حتى يمكن جمعهم مع المتشددين الجدد في اسرائيل ضمن مفاوضات تسوية. وقد بدا ذلك واضحا بعد ساعات من تمكن مصر من انجاح مفاوضات المصالحة الداخلية الفلسطينية، اذ بدأ الامريكيون والاوروبيون يقومون بمهام صهيونية لافشال المصالحة باشتراط ان يلبي اي توافق متطلبات اسرائيل من اعتراف بها وقبول بتلقي تعليماتها فيما تسمى المفاوضات معها ووقف اي تسليح او مقاومة او حتى اعتراض على القتل والحصار والتجويع والاذلال. وفي مقابل ماذا: لا شيء سوى المزيد من الارهاب الصهيوني المغلف بالموافقة على الجلوس مع الفلسطينيين في اجتماعات احتفالية لا تسهل مرور فلاح فلسطيني من بيته الى ارضه عابر حاجز للاحتلال. وتجد شروط الرباعية استجابة عربية طوعية، اذ ان العرب اختاروا طريق السلام والتفاوض مع العدو مهما كان تشدده ومهما كانت شروطه. ومن هنا فهم يقبلون بإعفاء الاحتلال الصهيوني من جرمه في غزة وعدم تحميله اي اعباء تعويضات (عن الدمار المادي، وليس أرواح الشهداء التي لا تقدر بكل ما تملك اسرائيل وكل اطراف الرباعية) بل واعادة بناء ما يمكنه تدميره مستقبلا في محرقة اخرى لغزة اذا لم تركع. وسيقبل العرب بتقديم المزيد من التنازلات (لست ادري ماذا بقى لديهم للتنازل عنه) حتى تتمكن الرباعية من اقناع حكومة نتنياهو بتخفيف تشددها. وهنا تبرز بركات الشيخ بلير، الذي امضى عامين مبعوثا لدى اسرائيل يتشاور معها وربما ينصح الرئيس عباس في رام الله احيانا. ونصحه هو على طريقة شركته الجديدة التي ستحصل على عملاء جدد من بعض الحكومات العربية التي ستدفع الملايين لتسمع من الناصح بلير كيف يمكنها ان تكسب ود اسرائيل وأميركا عن طريق "تنازلات بسيطة". كاتب صحفي عربي مقيم ببريطانيا