عبارة مشهورة ، كثيرا ما نسمعها في سياق المكايدة السياسية والتلبيس الإعلامي وتشويه الخصوم ، حتى صارت أقرب شيء على ألسنة الخواص من سدنة الظلم والاستبداد ، وعلى ألسنة العوام الذين تعييهم الحيلة في تحري الحق والانتصار له .لكن أكثر الناس استعمالا لها فيما أرى هم التيارات العلمانية التي تنادي بفصل الإسلام عن حياة الناس أو عن حياتهم السياسية على وجه الخصوص ، ممن هزموا هم وأشباههم في معارك انتخابية شريفة أمام التيارات ذات المرجعية الإسلامية في تصوراتها وبرامجها السياسية ، تلك المرجعية الصلبة في الثوابت والأصول ، والمرنة في المتغيرات والفروع ، والمتسعة لمختلف الاجتهادات ما انضبطت بأصولها وحققت مقاصدها .ومع أن تلك العبارة لا تمثل مشكلة في ذاتها ، سواء من حيث صياغتها أو مقصودها ، فالتاريخ والواقع يشهدان على طغاة لم يحكموا الناس إلا بصرع الآخرين وإبادتهم .إلا أن زجّها في سياق التلبيس على الناس ، سواء بنفي علاقة الإسلام بالسياسة ، أو بوصف التيارات ذات المرجعية الإسلامية التي اختارت أغلبية الناخبين في الشارع المصري بعضها ، ثم استلبها منها انقلابي غاصب بالحديد والنار هو ما يستحق منا شيئا من التأمل والتوضيح والرد : إن الإسلام من حيث هو كلمة الله الأخيرة إلى البشر ، التي أرسل الله بها رسوله رحمة عامة ، وليس للمؤمنين به دون الكافرين ، وليس للإنسان دون غيره ، بل رحمة للعالمين ، ومن أجل ذلك تكاثرت نصوصه ومبادئه في ضرورة إقامة العدل وعمارة الأرض ، لم يكن ليرضى أن يعيش أتباعه في زاوية من زوايا الحياة يقتاتون على ما يقع من موائدها دون أن يكون لهم يدٌ في تنمية الخير في ربوعها ورعايته .لم يكن ليرضى أن يكون أتباعه بمعزل عما يقع في بلادهم من بغي وعدوان ، وسلب للحقوق وسحل للحريات وعبث بالمقدرات ، ورعاية للظلم والفساد ، فجعل واجبا عليهم أن يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر ويقيموا العدل ويحفظوا الحقوق ويصونوا كرامة الإنسان ، ويساهموا في عمارة الأرض وتنمية الحياة .من هنا كانت عناية الإسلام بالسياسة - وعلى رأسها السلطة - كيف لا وهو دين الجماعة كما هو دين الفرد ، ولا قيمة للفرد بغير أناس يشترك معهم في وطن واحد ، وهم واحد ، ومصير مشترك ، يسعون جمعيا في حمايته ورعايته ، والتنعم بخيره على السواء ، دون تمييز بينهم في الحقوق أو الواجبات .لقد فهم المسلمون الأوائل عن دينهم كل ذلك بيقين فأقاموا دولة العدل والإحسان ، وحضارة علمت الدنيا كيف يُحترم الإنسان ، فأبصر النور في كنفها ، وتذوق الشهد من معينها ، وعاش عزيزا آمنا موفور الكرامة .***فلا عجب إذن أن يفهم التيار الرئيس من مسلمي اليوم عن دينهم نفس الأمر ، فناضل في مصر مع غيره من أبناء الوطن الواحد جنبا إلى جنب ، حتى اندلعت ثورة 25 يناير فحملوها جميعا على أكتافهم ، اختلفت مرجعياتهم الدينية والفكرية لكنهم اتفقوا على أن يعيشوا أخوة متساوين ، متحدين على من يفرق جماعتهم أو ينال من ألفتهم ، أو يعبث بحقوقهم .وارتضوا في تلك الثورة أن تكون كلمة الشعب حكما وعدلا في اختيار من يسوسهم ، وكان ما كان مما لا يخفى على أحد من فوز فصيل سياسي منهم ذي مرجعية إسلامية في أكثر من استحقاق انتخابي تميز صندوقه لأول مرة بالنزاهة والشرف .لكن فلول البغي والفساد وسدنة الظلم والاستبداد كان لهم رأي آخر : فقد رأى هذا الشعب أقل من أن يكون له الحق في إدارة شئون بلاده ، ومن أن تعلو كلمته فوق كلمتهم ، فكادوا له كيدا ، وأبرموا له أمرا ، حتى أطاحوا بكل ما اختاره وقال فيه كلمته .لقد استكثروا عليه أن يعيش كما يعيش الناس في بلاد الناس ، وأن ينزلوا عن عروشهم وامتيازاتهم التى منحها لهم ليقرر بشأنها ما يشاء .. حتى كان خاتمة مكرهم ذلك الانقلاب الاغتصابي الهمجي الدموي غير المسبوق في 3 يوليو ، مشفوعا بجماهير 30 يونيو ، فخدعهم ونكل بمطالبهم ، تماما كما نكل باختيارات الأغلبية ، وأزهق معها أرواحًا ، وغيب وراء الأسوار أجسادًا ، واستباح فيها أعراضًا .إن عبارة "صراع على السلطة" تصدق أول ما تصدق في حق أولئك الانقلابيين الذين ضيعوا الأمانة ، وخانوا العهود وقهروا الشعب ، واستكثروا عليه أن يرى ويقرر ويختار .وإن هذا الشعب الذي تعلم أن التدافع بين الحق والباطل ، والظلم والعدل ، والاستبداد والحرية ، سنة قرآنية وضعها الله كي تستقيم الحياة وينزوي عنها الفساد ، لم يكن له أن يسترد حقه المسلوب بالصراع والإفناء والإبادة التي هي سنة شيطانية لا يعرفها إلا المستبدون البغاة .. وشتان شتان بين التدافع والصراع .فقط هم المستبدون الذين لا يعرفون غير الصراع وسيلة إلى السلطة لا ليحكموا ، بل ليتحكموا في رقاب الخلق ، ويتجبروا في الأرض بغير الحق .. وهيهات أن تفلح أمة يقودها الاستبداد والبغي ، ويدير أمرها الافتراء والظلم .وصدق الله القائل : "قَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا" .. "وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى" .. "إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ" .. "وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ" .