تأتي ضغوط الحياة المريرة على الإنسان الذي لا يملك قوةً ليدفعها، أو صبرٌ ليتحملها نظراً لقسوتها وصعوبتها عليه، ولقلة خبرته في التعامل مع متطلباتها بجميع أنواعها وبقسوتها المفاجئة خاصةً في مقتبل عمره، فتفتك بعواطفه النبيلة، وتقتل مشاعره الجياشة، ولربما أفقدته الراحة النفسية والصفاء الذهني والمودة والألفة في التعامل مع الآخرين، وأكسبته تلك القسوة الجفاء والغلظة وعدم فاعلية التفكير بمشاعره وقلبه، والاعتماد على المصلحة الشخصية والمنفعة الذاتية وحسب، ولربما أتى عليه وقت فقد فيه الحب والحنان الذي طالما كان يحلم بهما والذان كانا ساكنين في نفسه لسنوات. تلك الضغوط القاتلة التي تتولد عن أسباب يتعلق بعضها بظروف المعيشة الطاحنة في بلاده التي يحيى فيها وتهاوي اقتصادها والفساد المستشري بين أبنائها وغياب العدالة الإجتماعية الأمر الذي يزيد صاحب الأموال غناً وجاهاً وسلطاناً وتسلطاً، ويزيد الفقير فقراً وضعفاً وظلماً، أو ظروف شخصية قاسيةً أوقعته في غياهب الحيرة والملل والضيق من تلك الحياة المتقلبة في أحوالها المحيرة في منظرها، فيراها بعين الحسرة والألم تغمر غيره بالسعادة والسرور والمال والجاه، بينما هو في عكس ذلك تماماً، حيث ضيق العيش وقلة الفرح والراحة وكثرة التفكير والبحث عن الخروج مما هو فيه بأي ثمن وبأي طريقة. تلك الضغوط القاسية تجعل الإنسان منكباً على وجهه طيلة عمره يبحث عن أساسيات الحياة وضرورياتها الملحة من مال ومسكن ومأكل ومشرب، تاركاً روحه وما تريد خلف ظهره، فلا يفكر في تنمية روحه بالعبادة والعمل الصالح أو لا يبحث أساساً عن حب أو هواية أو قضية أو إصلاح أو قرآءة أو ثقافة، فلا وقت لديه لتلك التي يراها من كماليات الحياة وهي عند غيرة طقوساً يمارسها دائماً. ولقد تحدثت بعض كتب السابقين وامتلئت أقوال بعض الحكماء بالثناء الحميد على الدنيا وزخرفها وبهجة منظرها وحلاوة طلعتها، بأنها حلوة خضرة، يانعة مبهجة لكل من يحلق في آفاقها، بينما نطق بقول الحق في تلك القضية وفصل في أمرها وشرح أبعادها وبين الصواب فيها النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الصحابة الكرام والتابعين الأعلام وأهل الرأي والفهم من المصلحين الأفذاذ، فالكل قد حذر من غرورها الزائف وقبضتها القوية وعنفوانها الشديد، وبينوا أنها لا تستحق بأي حال من الأحوال أن ينسى الانسان ربه وعمله ونفسه لأجلها، وأنها عند رب البرية سبحانه وتعالى لا تساوي جناح بعوضة، أو كبشاً ميت، رائحته منتنة مقطوعة أذنه دميم منظره، وأنها محفوفة بالشهوات مليئة بالمخاطر والأهوال، لا ينجو منها إلا كل صاحب عقل وفهم وتوفيق من ربه تعالى، ولقد تمنى الفاروق رضيى الله عنه أن يخرج من الدنيا ليس له أو عليه شيئ وهو الذي أسلم فحسن إسلامه، وحكم فعدل فأمن الناس في عهده. إن تلك الدنيا الفانية لا ينجوا منها إلا من ثبته الله بأن يلتزم شريعته ويحقق الصدق في طلب النجاة منها، والثبات على الفضيلة والدين، والعبور بسلام وأمان لدار القرار "الآخرة"، وأن ينطق فيها بالحق مهما كانت النتائج فلا يخاف من ظالم أو يقيم وزناً لطاغية خوفاً من بطشه وعنفوانه، فما في الحياة إلا موتةٌ واحدة فلتكن في رجولة وقوة وصبر جميل وثبات على المبدئ والحق، وأن لا ينشغل الإنسان بتحقيق العيش على حساب الحق والقضية التي خلق لأجلها وهي توحيد الله ودعوة الناس إليه وتحكيم شرعه، والدفاع عن الحق ونصرة المظلوم وليس الخنوع والخور والضعف والسكون لكل ظالم أو تصديق كل ناعق.