(1) قائد الانقلاب العسكري دخل قلوب الملايين من شعبه عندما أعلن فى تصريح له بعد الانقلاب: أنه ليس له أي مطامع شخصية فى حكم مصر ولن يترشح لرئاسة الدولة ، وأن مصر قد تحررت من حكم الطاغية محمد مرسى الذى فرّق الشعب وأوشكت مصر فى عهده أن تقع فى حرب أهلية.. ثم وعد بأن "مصر أم الدنيا" ستكون "أدّ الدنيا".. ولست أدرى ماذا فهم الناس من عبارة "مصر أدّ الدنيا"..؟! أنا شخصيًّا لم أفهمها لا لقلة فهمى ولكن لأنها عبارة –من الناحية المنطقية واللغوية- فارغة من المعنى.. وإقرب وصف لها أنها مبالغة غامضة لا يفهمها إلا صنف من الفهلوية الذين يعتقدون أنهم قادرون على"دهان الهواء دُوكو".. ويقسمون" بالله العظيم" أنهم رأوا هذا يحدث بالفعل!.. دعْك من هذا الجانب الأسطوري فى مسرحية الزعيم ، لنناقش الجزء الأول من وعوده.. التى فُهم منها أنه لا مطمع له فى حكم مصر.. ودليل ذلك أنه لن يسعى لرئاسة الدولة .. وأخذها العوام على أن ذلك علامة على أنه فى 30 يونية قاد ثورة ولم يقم بانقلاب.. وأعلن ساعده الأيمن فى الانقلاب العسكري اللواء كذا كذا: أن كلام السيسى صادق .. وراهن -متحدِّيًا- على أنه: إذا ترشح للرئاسة فسيكون هذا دليلا على أنه قام بانقلاب عسكري.. وأنه طامع فى السلطة ..وقد روّج لهذه البروبجاندا الإعلام المصري.. فصنع من السيسى زعيما أسطوريا متجرّدًا من الهوى والمطامع الشخصية..
ولكنه خدع الجميع ورشّح نفسه فى النهاية للرئاسة.. رغم الوعود وأغلظ الأيمان.. وحطّم هو نفسه الصورة المزيّفة التى صنعها أنصاره وروّج لها الإعلام.. فما الذى حدث..؟! لقد اختفى السيسى من الصورة -ظاهريًّا لفترة طويلة مخطَّطة- وإن ظل يدير السلطة بهاتفه النقَّال.. ويحرك العرائس على المسرح من وراء ستار.. بخيوط بين أصابعه لا يراها المشاهدون الأغرار .. فى تلك الفترة من الاستتار كان هو ومستشاروه من الأتباع والأجانب (أمريكيين وإسرائيليين وخلايجة) يرتِّبون للمرحلة التالية وهي تتويج الزعيم على عرش مصر : إما بمظاهرات مليونية للتفويض بالحكم نيابة عن الشعب الثائر .. أو بجمع ملايين التوقيعات للمبايعة.. أو بانتخابات صورية يتم تزويرها بطريقة أو أخري..؟ وانتهى الرأي إلى الإختيار الأخير.. ولكن بقيت مشكلة الوعد الذى قطعه الزعيم المتجرِّد على نفسه أمام الشعب والعالم: "أنه لا يطمع فى السلطة ولن يسعى لحكم مصر .. وهتشوفوا..؟!" وقد جعل –هو نفسه وأقرب مساعدوه- هذا الوعد شرطا ودليلا على تجرُّد الزعيم.. فكيف ينكص فى وعده بدون خسائر كبيرة ..؟! لقد دبر هو وأجهزته ومساعدوه سيناريوهات متتابعة لكي يبدو الشعب عاشقًا لارتقائه عرش السلطة فى مصر .. وأن الشعب سيموت وَلَهًا إذا تخلَّى عنه معشوقه الذى وصف نفسه بأنه "القوي الأمين".. متمثلًا بشخصية النبي موسى عليه السلام فى الحُجَّةِ التى ساقتها ابنة شعيب عندما قَالَتْ لأبيها :{يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ ۖ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِين." وهو الاستئجار الذى انتهى بزواج موسى من ابنة شعيب. والزعيم لا يري فى مشروع رئاسته إلا أنه عقد زواج بمصر بالمعنى الحرفِيّ المادي للزواج الأبدى.. أما الانتخابات والديمقراطية وصناديق الاقتراع والمنافس الوحيد أو المُحَلّل الشرعي "حمدين " ، فهذه لزوميات مراسيم العرس والزفة الشرعية فى الحارة المصرية .. وكلها مجرد خدع لإيهام الغوغاء بأن الزواج زواج شرعي وليس زواجًا باطلا كما يزعم العزَّال..! وهنا يأتى دور ما أطلق عليه إعلام المخابرات حملة " كَمِّلْ جميلك.."؛ فقد أعدّت الحملة وثيقة لتقديمها للفريق أول عبدالفتاح السيسي.. الغرض منها فيما يزعم إعلام الانقلاب (حرفيًّا) هو : "إجباره علي الترشيح لرئاسة الجمهورية".. تصور عبارة "إجباره على الترشح .. وتأمل فى أعماق معانيها -على مهلك- ..! ولأن الزعيم ملتزم بوعده المبدئي بعدم الترشُّح .. لذلك طلبت الحملة السيسية بإلحاح شديد موافقته على استقبال وفدها لإقناعه بالعدول عن موقفه "كممثلين شعبيين" ؛ وهذه عبارة أخرى تحتاج منك إلى تأمُّل عميق أيضًا فى محاولة للفهم..! وقد زعموا أنهم يحملون معهم إليه أكثر من 15 مليون توقيعًا مؤيِّدا لترشيح الفريق السيسى للرئاسة.. فهل بعد كل هذا يستطيع زعيم الشعب ومعشوقه أن يتخلى عن شعبه فى الملمات والنوازل العاطفية والمآزق السياسية .. إلا أن يكون جاحدا متهرِّبًا من تحمُّل مسئوليته التاريخية التى وضعها القدر على كتفيه هو وحده؛ كأن مصر قد خلت من الرجال الأكفاء...؟!! هكذا وجد الزعيم الخالد مبرٍّرًا وذريعة للتحلل من وعوده وأقبل على الترشيح بصدر رحبٍ إستحابة لجماهير شعبه الحبيب..! كما استجاب لها فى صنع الانقلاب على الشرعية .. وكما استجاب لها فى التفويض بالقتل والمجازر فى فض الاعتصامات والقضاء على الإخوان الإرهابيين .. كل شيء بأمر الشعب وتفويضه...!
(2)
حاول الزعيم تبرير تلعثمه وتأخُّره فى الكلام بقوله أن السبب هو أن كلامه يمر بثلاثة فلاتر هي "الصدق والأمانة والحق".. ويرد عليه المستشار وليد شرابى "المتحدث باسم حركة قضاة من أجل مصر" على صفحته فى الفيس بوك: "أقولُ كذبت؛ الصفات الحميدة لا تؤدى إلى مرضك ولكن الثلاثة هي: الجهل والخوف والخيانة .. وكلها أمراض كوَّنت شخصيتك فتلعثم لسانك.." وأعتقد أن وصف المستشار وليد شرابى أقرب إلى التفسير العلمي .. تؤكّده حقائق علم النفس المَرَضيّ ؛ فالذى نلاحظه على كلام الزعيم أنه "يتهته" ويتردد وتضيع الكلمات من لسانه وإذا نطق ابتسر وتلجْلَجَ وتكسّرت كلماته .. وإذا حاول التغلب على ذلك بتسريع نطقه أفلتت منه الكلمات المكبوتة التى تفضح مكنونات نفسه و حقيقة مشاعره.. فتبرزه على طبيعته بدون رتوش .. وقد تكررت منه فلتات اللسان الفاضحة فى تسجيلات مشهورة.. شاعت على أقلام النُّقّاد وفجّرت غضب الملايين فى أنحاء العالم .. وانعكست فى السخريات التى عبرت عنها الهاشتاجات المليونية..
فالرجل كلما نطق فضح نفسه وصنع هزيمته بلسانه.. فهو فاقد للثقة فى قدرته على التعبير خارج إطار العبارات العاطفية الثلاثة أو الأربعة التى حفظها وكررها فى كل مناسبة حتى أصبحت بضاعة مستهلكة.. وفقدت قيمتها كعملة مغشوشة فى السوق. وإدراكه لهذه الحقيقة هو أحد أسباب تلعثمه التى تشتمل على خواء ذهني من الأفكار البنّاءة.. وليس السبب هو "الفلاتر الثلاثة" المزعومة..!