تتناثر الرمال .. و تتعدد قسمات الوجه و تزوغ رمقات الأعين .. لكن عبق التراب الفلسطينى يبقى .. رغم و مضات التاريخ و صمم الغارات , و تدافع المهجرين نحو مستقبل أعمى .. لا يراهم و لا يرون معالمه ..فالحمامة التى أفرخت فى ثنايا الوطن .. لم يكن لها أن تحيا فى شتات الملاجئ يافا .. على شريط التاريخ يافا..أرض فلسطينية لاريب, إذا أتيت على ممرات العصور البرونزية تراها, ملتقى طرق قديمة عبر سهل ساحلى ممتد. وفى أعقاب العصر الحديدى فعليك أن تسأل النبى يونس ركب منها سفينة قاصداً ترشيش، وعندما قذفه الحوت نزل على الشاطئ الفلسطيني عند النبي يونس قرب اسدود، أو عند تل يونس، بين روبين و يافا.. ولتلمع عيناك بنيران الحرب التى قدمت من بحر إيجه و كانت ميناء الصد الأول عن الشعب الكنعانى الذى قطن هذه البقعة الفلسطينية فى تلك الآونة, و سيطر عليها إدارياً النفوذ المصرى , و كان معها فى ذلك عسقلان وغزة. و فى غضون الحضارة الهيلنستية الذى تبنى ثراها فى تلك الفترة البيزنطيون, و التى كانت مزيجاً بين حضارات الشرق و الحضارة اليونانية, فسأل الإسكندر عنها كمركز مهم للاتصال الدولي والنشاط التجاري بين بلاد الشام والأقطار العربية المجاورة، وبلاد اليونان، وجزر البحر المتوسط. أما العصر الررومانى الذى شهد إضطرابات خطيرة جعلت من يافا الساحلية مركزاً للصراع بين يوليوس قيصر و حكامها .. ليتحول النزاع فيما بعد إلى القائد الروماني " سوسيوس " (Sosius) الذى أرسل جيشاً بقيادة "هيروز" لتأديبهم، واستطاع إعادة السيطرة الكاملة على المدن المضطربة وبخاصة يافا. ليعود الهدوء مجدداً عندما استطاعت ";كليوباترا" ملكة مصر في ذلك الوقت احتلال الساحل الفلسطيني وإبعاد هيرودوس، حيث بقي الساحل الفلسطيني، ومن ضمنه مدينة يافا تابعاً لحكم "كليوباترا " حتى نهاية حكمها عام 30 قبل الميلاد. و مع بداية الفتح الإسلامى للمدينة العريقة, م يكن من أجل التوسع أو نشر النفوذ، أو إقامة الإمبراطوريات، إنما بدوافع دينية لنشر دين الله، وتخليص الشعوب المغلوبة على أمرها، ويبدو ذلك بكل وضوح في عدم تعرض مدن فلسطين إلى أي تدمير عند فتحها, فلقد استطاعت الموجة العربية الإسلامية القادمة من الجزيرة العربية، في القرن السابع الميلادي تحرير بني قومها من سيطرة البيزنطيين، ومن ثم تعزيز الوجود العربي فيها، ورفده بدماء عربية جديدة. و فى العهود الإسلامية تستطيع أن تبسط الأوراق و تملأ الحبارات , لتسترسل فيما جرى ليافا من مذابح و نكبات ,فبعد انهيار الحكم المملوكي، دخلت كل من مصر و بلاد الشام، بما فيها فلسطين في عهد الدولة العثمانية. وفي مطلع ذي القعدة عام 922 ه، كانون الأول، (ديسمبر) 1517 م استسلمت المدن الرئيسية في فلسطين، ومنها يافا، و القدس وصفد ونابلس للدولة العثمانية دون مقاومة. بعد احتلال نابليون بونابرت لمصر في القرن الثامن عشر، وبعد تحطيم اسطوله في معركة أبو قير البحرية قرر نابليون غزو مدن الشام حتي يقضي علي سبل امداد القوات الإنجليزية. فحدثت معركة حربية بين القوات الفرنسية بقيادته وبين القوات العثمانية في يافا بقيادة أحمد باشا الجزار بعد أن فرض الفرنسيون حصارا على المدينة. استمر الحصار لمدة 4 ايام في مارس 1799، وكانت مدينة يافا تمتاز بالاسوار العالية الحصينة إضافة الي وجود قوات المدفعية تقدر بحوالي 1200 جندي. ورغم قوة تحصينها إلا أن نابليون قرر الاستيلاء عليها اولا حتي يستطيع غزو باقي مدن الشام نظرا لموقعها الاستراتيجي ولانها أيضا تطل علي البحر و مع بداية الإنتداب البريطانى دخلت فلسطين في عهد جديد، هو عهد الاستعمار البريطاني، الذي عرف ب"الانتداب البريطاني على فلسطين وعين السير "هربرت صموئيل" اليهودي البريطاني "أول مندوب سامي في فلسطين". وقد اختلف هذا العهد عن جميع العهود السابقة التي مرت بها المسيرة التاريخية للمدينة،وبعد إعلان الانتداب البريطاني على فلسطين، أخذ طوفان الهجرة اليهودية يتدفق على ميناء يافا، فارتفعت أعدادهم فيها بصورة كبيرة، وكان معظمهم من الطبقات الفقيرة القادمة من وسط وشرق أوروبا، لذلك انتشرت بينهم الدعوات البلشفية الشيوعية، وكان معظمهم ينتمي إلى الهيجستدروت أو اتحاد العمال اليهودي. ومع تطور الأحداث والصدامات المسلحة، أصبح الكفاح المسلح هو الوسيلة الوحيدة للدفاع عن الحقوق. وقد أعلن الشيخ عز الدين القسام، الثورة المسلحة ضد اليهود والاستعمار البريطاني في فلسطين. وقد ألهب هذا الإعلان مشاعر المواطنين الفلسطينيين في كل مكان، وانتشرت روح الجهاد ضد الاستعمار، واقتنع الجميع بأن الكفاح المسلح هو الأسلوب الوحيد لحماية الوطن. ثم استشهد الشيخ عز الدين القسام في 19/11/1935، وكان ذلك بمثابة إعلان الثورة. ومن ناحية أخرى فرض المندوب السامي البريطاني في فلسطين قوانين الطوارئ، كما فرض نظام منع التجول على مدينتي يافا وتل أبيب، بعد الأحداث الدامية التي شهدتها يافا ومناطق أخرى من فلسطين بين العرب واليهود في نيسان (إبريل) 1936 م، غير أن هذه الإجراءات لم تحل دون تأجج نار الثورة، حيث حدثت عدة مصادمات بين العرب والجنود البريطانيين في يافا احتجاجاً على وضع مساجد المدينة تحت الاشراف المباشر للسلطات البريطانية. و نتيجة لما حدث شكل زعماء يافا لجنة للأشراف قامت بفرض الإضراب العام, و على إثر أسدقاء قرار التقسيم الغاشم بأسبوع واحد، نشبت معركة بين العرب واليهود في حي "تل الريش" شرق المدينة، حيث استطاع المناضلون العرب اقتحام مستعمرة "حولون" المجاورة، وفي مطلع شهر كانون الأول (ديسمبر) من 1947م قام اليهود بهجوم كبير على حي "أبو كبير" وقتلوا عدداً من المواطنين. لينسحب بعد ذلك الجيش البريطانى و يترك المجال لعصابة" الهاجاناه" اليهودية التى أجرمت بشكل غير مسبوق فى حق الشعب الفلسطينى المناضل, و سقطت يافا فى قبضتهم بعد ذبح الزعماء و المناضلين دروع الدفاع و الصد عنها . سقطت يا فا .. سقطت بعد ذبحها, وهجر منها حوالى 15% من نسبة عموم المكرهين على الخروج من الأرض ليصل عددهم الآن 470.000لاجئ من هذه البقعة وحدها. وفي عام 1950 ضمّت بلدية تل الربيع التى هودت إلى تل أبيب مدينة يافا لسلطتها، وأصبحت بلدية واحدة تسمى بلدية تل أبيب- يافا، يشكل فيها السكان العرب ما يقارب %2 من السكان. ومنذ اللحظة الأولى وضعت بلدية تل أبيب- يافا مخطط تهويد المكان، فغيّرت كل أسماء شوارع مدينة يافا إلى أسماء عبرية لقيادات الحركة الصهيونية أو أسماء غريبة عن المكان لا تمتّ له ولتاريخه العربي العريق بأي صلة. كما عملت على تغيير الطراز المعماري للمكان من خلال هدم جزء كبير من المباني القديمة، وهدم أحياء وقرى بكاملها. و هكذا تطلس معالم المدينة , تلغى بآلة حربية غاشمة حولت أبجديتنا إلى حروف غريبة لا نعلمها , لا نذكرها إذا كانت موجودة, ولا نريدها. غير الكيان الصهيونى طرازها المعمارى ,و نقوشها العربية , و حياتنا من ذى قبل.لكن تبقى الإشراقة العربية هى هى ببهائها و برونقها الذكى. يعيش بقايا الدم العربى القاطن فيها الآن ممثلاً23,000 فى ثلاثة أحياء فقط من جملة 12حى ازدردها الصهاينة ,حيث استولوا على البيوت التى تركها السكان الأصليون وراءهم. فامتلك الاجئ مفتاح الذكرى ...و امتلك المحتل واقع مدهون بالدماء.