المجتمعات بنية متحركة متحولة، والتاريخ يصنعه البشر، والبشرية الآن تعيش ثورة هائلة في طرق نقل المعلومات، وبفضل التقنيات الحديثة فإن نقل المعلومات والحصول عليها يتم بسرعة فائقة، كما أنه لم يعد بالإمكان وضع القيود والحواجز أمام الحركات الفكرية والثقافية؛ إذ أصبح العالم يتفاعل بعضه مع البعض الآخر بكل سهولة ويسر، وأصبح من المستحيل أن يحيا بلد منعزلاً، ومكتفياً بذاته، وأصبح لا مجال لنكران قوة العولمة، ومدى تأثيرها في تغير خريطة العقل الجمعي والرأي العام.. فأصبح ظهور نظام استبدادي في مكان ما يؤدي إلى ظهوره في مكان آخر عن طريق العدوى السريعة، وتبادل التأثير، وإذا كان من المعروف أنه يكمن وراء انتشار السلطات الاستبدادية في جميع أنحاء العالم، أمراض ومشاكل محليّة متشابهة، تظهر في أمكنة متعددة متباعدة، وتختلف نسبة تأثيرها، فإن هذا التباعد في المكان الذي تظهر فيه الأنظمة الاستبدادية، لا يمنع من كون هذه الأنظمة جميعها متصلة مترابطة ومتعاونة، ومن المعروف أيضاً( أن الأنظمة الاستبدادية نتاج السلطة المطلقة )والسلطة المطلقة لا شك أنها تُخرج أسوأ ما في النفس البشرية!! ولها من القدرات الوبائية التدميرية والتخريبية؛ ما يشوه مُجمل العلاقات الاجتماعية و الإنسانية .. * فالسلطة كوظيفة اجتماعية عندما تنحرف عن مسارها الأخلاقي و تكرس نفسها لخدمة فئة من أصحاب النفوذ، فإنها تصبح المنتهِكة الأولى للقوانين، و المتجاوزة و المحرفة لها، بحيث تصبح هذه القوانين أداة طيّعة تخدم مصالح أصحاب النفوذ، و تضر بمصالح الآخرين من الطبقات الأخرى، و تستعبدهم وتنتهك أبسط حقوقهم الطبيعية( وهنا تنفصل السلطة عن الشعب) و تدافع عن مصالح المستغلين، وهم الأقلية في المجتمع، و يمارس السلطة هنا الأشخاص الذين يصبح الحُكم بالنسبة لهم مهنة، كالموظفين و الجيش والقضاء والشرطة.. الخ. أما المؤسسات الرئيسية الهامة الملحقة بهذه السلطة العامة فهي المحاكم والسجون و غيرها من المؤسسات العقابية، * وفي ظل سيادة أقلية من الناس يسود الاستغلال و الاستعباد، و تتحول الشرائح الاجتماعية العريضة إلى مجموعة من العبيد المنتجين، الذين يقدمون طاقاتهم الإنتاجية إلى فئة الأقلية، و من هنا فإن الدولة التي تكون على رأسها سلطة مستبدة طاغية، ستكون دائماً تحت تصرف تلك الطبقة من المجتمع التي لها سند قانوني في ملكية أدوات الإنتاج.. و ما تصدره الدولة من قوانين وضعية، إنّما تصدره لصالح هذه الطبقة!! كما أن حق الملكية الذي تحافظ عليه هذه القوانين ليس إلاّ حق تلك الطبقة.. و من ثم فإذا كان عدد الذين يملكون في دولة من الدول ضئيلاً؛ فإن هذه القوانين سوف تتحيز لصالح هذه القلة.. أما إذا كانت الجماعة بأكملها هي التي تملك، فسوف تتحيز القوانين لصالح الجماعة كلها ضد المصلحة الخاصة لطبقة معينة، أولنخبة معينة من الناس. * و لا شك أن الدول التي تحكم بغير شرع الله، وتعتمد على القوانين الوضعية، تاركة القوانين الإلهية الربانية؛ ليس لها إلا شريعة الغاب والاستبداد، والقمع، والقهر، والانحطاط الأخلاقي، والخواء الإنساني والأسري رغم مظاهر التمدن؛ لذلك بدأت بالفعل كثير من دول العالم الغربي تأخذ بالنظام الإسلامي، مثل أمريكا مثلا- القانون المقارن بلاهاي- أثمر عن اعتماد الشريعة الإسلامية باعتبارها من الشرائع المتكاملة في العالم، وأيضاً القضاء الألماني يأخذ بأحكام الشريعة الإسلامية في فض نزاعات المسلمين في مسائل الأسرة والمواريث منذ سنوات طويلة.. ومن يقرأ عن الشريعة الإسلامية يعلم أنها نظام إصلاحي شامل وكامل، لا تنفصل فيه الشريعة عن العقيدة.. * ولكن هل تعرفون ماهى قمة المأساة ؟... قمة المأساة أن يُحكم شعب مغلوب بقوانين شعب غالب!! فإن من شأن ذلك أن تنفصم شخصية هذا الشعب ويعجز عن أي حركة مؤثرة في الاتجاه الصحيح, ذلك أن الحق ذاته عقيدة عند صاحبه فقيمة الحق من قيمة العقيدة لديه... من هنا تأتي مشروعية القوة لحمايته... والشاعر الكبير(أبو القاسم الشابي) سبق الجميع وقال من قبل: ( لا عدل إلا إن تعادلت القوى وتصادم الإرهاب بالإرهاب ) ويقصد بأن العدو الإرهابي الغاشم علينا التصدي له بكل قوة وليس عبر المفاوضات، أي ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة... وإذا انفصل الحق عن العقيدة كان مجرد قوة مسلطة جائرة.. إذن لا عدل إلا بتعادل القوي.. وهي نفس فكرة ميزان العدل.. سواء في البيع والشراء، أوفي القضاء والحكم بين الناس؛ لابد من تعادل كفتي الميزان ليتحقق العدل، ويتحقق التوازن والاعتدال.. و يسود في المجتمعات الأمن والسلام. * فهل آن أن نشمر عن ساعد الجد ونقتحم العقبة لاكتشاف ما وضعه رب العباد من قوانين ونظم سياسية وتدبيرية لتكون لنا مرجعا وقاعدة ومنطلقا ؟