تتواصل مسيرة الإنسان والأقوام على أرض البسيطة من مراحل ما قبل الحضارات السماوية إلى مراحل الحضارات السماوية وما بعدها. وهناك فارق كبير بين الحضارة والمدنية، فلا حضارة حقيقية من غير مبادئ وشرائع الأديان السماوية، أما المدنية فهي الأكثر شيوعًا عبر العصور والأزمان والتي ترتبط ارتباطًا وثيق الصلة بالمنجزات والمكتسبات البشرية المادية في جميع المجالات. ومن أكثر المشكلات العالمية- بعمد أو بغير عمد- انفصال المدنية عن الحضارة الإنسانية وتغليب المصالح المادية والمكاسب الاقتصادية على المبادئ الأخلاقية والقيم والشرائع السماوية. والسباق العالمي المحموم مازال ينطلق في اتجاه واحد نحو تحقيق التوجهات الاستراتيجية، والأهداف السياسية، والمصالح الاقتصادية دون غيره من الاتجاهات. ومن أهم سمات المدنية عدم التوافق وانعدام الترابط بين المنجزات المدنية والقيم الروحية والمعتقدات الوجدانية، وذلك على النقيض من سمات الحضارات السماوية التي تتوافق توافقًا جذريًا مع المنظومة الأخلاقية والمبادئ الإنسانية والقيم الروحية. وكانت للحضارة الإسلامية، وتعاليم الإسلام السمحة، وتوجيهاته المعتدلة فضلٌ كبيرٌ في تطوير العلوم عند العرب. فقد كانت الشعوب السابقة تعتمد على العبيد ونظام السخرة في قضاء أمورهم المعيشية التي تحتاج إلى مجهود جثماني كبير، فلما جاء الإسلام حرم إرهاق الخدم والعبيد وتسخيرهم، كما نهى عن تحميلهم فوق ما لايطيقون، هذا إلى جانب تحريمه المشقة على الحيوان، لتلك الأسباب اتجه المسلمون إلى الابتكارات وتطوير الآلات لتقوم بالأعمال الشاقة، بعد أن كانت غاية السابقين من تلك العلوم لا تتعدى سوى استعمالها في التأثير على أتباع مذاهبهم مثل: استعمال الكُهَان التماثيل المتحركة أو الناطقة، واستعمال الأرغن الموسيقى... وغيره من الآلات الصوتية في المعابد. جاء الإسلام ونهى عن كلٍ ذلك، وجعل الصلة بين العبد وربه من غير وسطاء ودون وسائل وسيطة، أو خداع حسي أو بصري . ولتلك الأسباب أصبح لعلم الحيل عند المسلمين هدفٌ جديد، ألا وهو التغلب على ضعف قدرات الإنسان، والتحايل عليها بتيسير استعمال الأدوات والآلات المتحركة للتخفيف على الإنسان والعناية براحته. وقد كان المهندس العالم الجزري هو أول من اخترع الإنسان الآلي المتحرك للخدمة في المنزل، وقد طلب منه الخليفة أن يصنع له آلة تُغنيه عن الخدم كلما رغب في الوضوء للصلاة، فصنع له آلة على هيئة غلام منتصب القامة وفي يده إبريق ماء وفي اليد الأخرى منشفة وعلى عمامته يقف طائر، فإذا حان وقت الصلاة يصفر الطائر ثم يتقدم الخادم نحو سيده ويصب الماء من الإبريق بمقدار معين، فإذا انتهى من وضوئه يقدم له المنشفة، تم يعود إلى مكانه والعصفور يغرد. ومن طرائف اختراعات المسلمين في علم الحيل ساعة الفارس المتحرك ذات الإثنى عشر بابًا والتي تعمل بالتزامن مع عدد الفرسان لكل توقيت، وذلك يفتح باب من الأبواب الاثني عشر المؤدية إلى داخل الساعة ويخرج منها فارس يدور حول الساعة ئم يعود إلى حيث خرج، فإذا حانت الساعة الثانية عشرة يخرج من الأبواب إثنا عشر فارسًا مرة واحدة ، ويدورون دورة كاملة ثم يعودون فيدخلون من الأبواب فتغلق خلفهم، كان هذا هو الوصف الذي جاء في المراجع الأجنبية والعربية عن تلك الساعة التي كانت تعد وقتئذ أعجوبة العلم والفن، وأثارت دهشة ملك الفرنجة وحاشيته... ولكن رهبان القصر اعتقدوا أن في داخل الساعة شيطانًا يحركها.. فتربصوا به ليلاً، واحضروا البلط وانهالوا عليها تحطيمًا إلا أنهم لم يجدوا بداخلها شيئًا، وتو اصل مراجع التاريخ الرواية... فتقول: إن العرب قد واصلوا تطوير هذا النوع من آلات قياس الزمن حتى عهد الخليفة المأمون الذي أهدى إلى ملك فرنسا ساعة أكثر تطورًا تدار بالقوة الميكانيكية بواسطة أثقال حديدية معلقة في سلاسل، وذلك بدلاً من القوة المائية. من هذه القصة نرى مدى تطور المسلمين في علم الحيل الهندسية في حين كانت أوربا تعيش في عصر الظلمات. فهل تبدل الحال واصبحنا نعيش في عصر الظلمات!! واصبحت أوربا تحيا في عصر الابتكارات!! إنه حقًا أمرًا مؤسفا..