رغم الفرق بين المعتصمين في الميدانين، إذ يحتج المعتصمون في أوكرانيا ضد سياسات سلطة منتخبة تمتلك الأغلبية في المجالس النيابية لكنها أجلت فقط توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي، ضد سلطة قدمت –والحق يقال- تنازلات لا بأس بها من إلغاء القوانين التي رآها المحتجون أنها تؤسس للدكتوريات في القرن الحادي والعشرين، وعرضت منصب رئاسة الحكومة على المعارضة التي رفضته، وأطلقت سراح السجناء، وأعطت عفوا عاما للناشطين، وأجرت حوارا مع المعارضين في جميع القضايا المطروحة حتى قبلت مقررات الوساطة الأوروبية ممثلة في الترويكا وزراء الخارجية الألماني والفرنسي والبولنديى هذه الوساطة التي أفضت إلى بنود منها إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، وتشكيل حكومة وحدة وطنية، والعودة إلى العمل بدستور 2004، وتسليم المعتصمين المسلحين أسلحتهم في غضون الساعات ال24 المقبلة، وعودة جميع قوات الأمن إلى مراكزها، ومعاقبة من تلطخت أيديهم بالدماء في السلطة، وإقالة النائب العام، وإبعاد وزير الداخلية الحالي من أي تشكيلة حكومية مقبلة. في حين أصرت المعارضة على مطلب واحد يتمثل في استقالة الرئيس وهو مطلب غريب جدا في المسألة الأوكرانية الحالية. بينما المعتصمون في مصر كانوا يحتجون ضد سلطة انقلبت على الشرعية، سلطة اختطفت الرئيس الشرعي المنتخب وعطلت الدستور وألغت جميع المجالس المنتخبة انتخابا مباشرا ونزيه بشهادة الجميع ومن بينهم المنقلبون، ضد سلطة ارتكبت المجازر تلو المجازر أمام مرأى ومسمع العالم، فما عدا تأجيل الرئيس فيكتور يانوكوفيتش توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي والتي مثلت القشة التي قصمت ظهر البعير كما يقولون، فإن تصريحات الرئيس كانت تدعو إلى السلمية وعدم التعرض لأرواح المدنيين بسوء والحفاظ على سلامة ووحدة الأراضي الأوكرانية رغم تصعيد المعارضة. إن القاسم المشترك بين المعتصمين في ميدان رابعة العدوية في مصر والمعتصمين في ميدان الاستقلال في أوكرنيا هو السلمية في الاحتجاج، بحيث يرفع كل منهما شعار السلمية، إلا أن تعامل السلطتين مع المعتصمين اختلف كذلك، فالسلطات الأوكرانية رغم قسوتها في بعض الأحيان إلا أنها تحلت بقدر كبير من ضبط النفس على مواطنيها الذين استولوا على بعض مقار حكومية، ورغم استمرار الاحتجاجات والاعتصامات أكثر من ثلاثة أشهر إلا أن حصيلة القتلى في حدود الثمانين بعضهم من الشرطة (والثمانون عدد ليس بالقليل) وغالبية القتلى سقطوا في الأيام الأخيرة. أما المسألة المصرية فالشهداء من المحتجين السلميين بالآلاف والمصابون بعشرات الآلاف والمعتقلون كذلك بعشرات الآلاف، وما من يوم تطلع فيه الشمس إلا ويسقط فيه ضحايا الحرية. موقف الدول الغربية من مقتل الآلاف في ميدان رابعة العدوية في مصر ومقتل العشرات في ميدان الاستقلال في أوكرانيا انقسم الغرب في المجازر التي حدثت في مصر إلى قسمين: غالبية خططت وأيدت ورعت ما حدث ويحدث هناك في مصر ضد طلاب الشرعية والحرية، وهو ما مثل صدمة لكثير من الناس الذين شاهدوا بأم أعينهم تنكر الغرب لمبادئ طالما روج لها، وقلة قليلة جدا من الدول الغربية هي التي رفضت هذا الإجراء على استحياء وفي طريقة لا تتلاءم مع جرأة الغرب، أما المسألة الأوكرانية فالأمر اختلف فالغرب كان على قلب رجل واحد وعلى صوت واحد تمثل لا أقول في مساندة المحتجين بل في التقمص في المحتجين والنطق بلسانهم في المراوغة ورفع سقف المطالب، مع الأسف الشديد أن كلا من الميدانين فضح الغرب ووجه صفعة قوية في سياساته وإنسانيته، فميدان رابعة برهن أن الغرب رغم كل المنجزات الحضارية التي يتمتع بها ورغم كل القيم والمبادئ التي ظن الناس أنه يؤمن بها إلا أن ميدان رابعة كشف للمنخدعين مدى غفلتهم وسطحيتهم أو حسن نيتهم على الأقل لذا فعليهم أن يعيدوا القراءة في مجالات المصالح والتلون والمكر والخداع، أما ميدان الاستقلال في أوكرانيا فبرهن كذلك أن كل الطرق مفتوحة للغرب المتحضر الذي يرى الأمور بنور المبصر، ويا ويل من ينحرف قليلا عن المسار المرسوم المحتوم، فكيف تفسر أن سلطة منتخبة في أوكرانيا لم يبق وقت نهاية هذا الاستحقاق إلا القليل ورأت عدم توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي في هذا الظرف ودون إغلاق هذا الخيار مستقبلا طبعا، أن يكون مصيرها ومصير الوطن كله على هذا الوضع الخطير الذي وضع بلدا مثل حجم أوكرانيا وفي هذه المنطقة الحساسة على كف عفريت؟
مآلات الوضع في أوكرانيا إن قراءة الوضع في أوكرانيا لا تحتاج إلى بذل كثير من الجهد فهو واحد من اثنين: أولا: أن تكون روسيا ضعيفة هشة إلى هذا الحد بحيث كشف الغرب هشاشة وضعية روسيا، لذا فهو يريد تصفية الحسابات معها بكل عنادها من فترة الاتحاد السيوفياتي والحرب الباردة... وإن صح هذا الاحتمال فالوضع مطمئن ولا داعي للقلق، إذ تهدأ الأوضاع بأقل التوترات التي تقتضيها مراحل الانتقال. ثانيا: أن يكون الغرب قد أساء التقدير، وهو ما أميل إليه، في محاولته الإضرار بالأمن القومي الروسي من خلال العبث بأمن ووحدة أوكرانيا التي انهارت تماما حاليا بسبب هذا الدفع المجنون وتلك القرارات المتدهورة وغير المحسوبة من المعارضة التي حظيت بتشجيع الغرب، فالفراع القائم حاليا في البلد لا يمكن ملؤه حتى وإن عاد الرئيس فيكتور يانوكوفيتش كما لا يمكن حاليا الحديث عن تطبيق الاتفاق المبرم بين الطرفين برعاية الاتحاد الأوروبي، ومن الواضح أن أوكرانيا بهذه القرارات الأخيرة المتعجلة مقبلة على أيام صعبة وأن عقد دولة أوكرانيا قد انفرط بفعل سوء تقدير الغرب وتربص روسيا، وفي رأيي أن روسيا هي الجهة الوحيدة الرابحة في هذه المعركة معركة العبث بقدرات الأمم والشعوب والدول، إذ هي تقف على هذا الموقف الذي لا يتمكن فيه الغرب من تطبيق الاتفاق الذي رعاه بتصرفاته وتصرفات المعارضة التي لا ترى إلا السلطة الوردية الجاذبة، كما أنه من الواضح أن أوكرانيا دخلت في معركة الصراع المفتوح الذي ينتهي في النهاية إلى الاحتراب والتقسيم وتدخل روسيا التي تطمح في استعادة دول الاتحاد السيوفياتي السابق. وأخيرا، فإن كلا الميدانين ميدان رابعة العدوية في مصر وميدان الاستقلال في أوكرانيا لا يمثلان صفحة خير وشرف وكرامة ودراية في سياسة الغرب الذي أضاع بهما كثيرا من رصيده حكما وقدوة وقيادة وأخلاقا، فالغرب في كلا الحالين أيد الفوضى وعدم الشرعية والقانون، فهو في مصر أيد الانقلاب على الشرعية وإراقة دماء طلاب الحرية، وأيد في أوكرانيا الانقلاب على الشرعية وسيادة الدولة بحيث لم يستسغ الغرب أن تؤجل أوكرانيا توقيع اتفاقية شراكة مع الاتحاد الأوروبي فضلا عما هو أكبر من ذلك، وهو ما يضع علامة سؤال كبير على سيادة الدول أمام الغرب. إنني أتفهم عدوانية الغرب في المسألة المصرية نظرا لماضيه الاستعماري الحافل بالجرائم لكنني لا أتفهم سذاجته في المسألة الأوكرانية، سذاجة ذلك الغرب الحضاري الخبير بظواهر الأمور وبواطنها، فهل تنقذ روسيا الغرب وتحفظ له ماء وجهه؟ كم كان يتمنى الكثير أن يتتلمذ على أيدي الغرب ليتعلم منه حسن السياسة والإدراة والحرية، وأنى له ذلك وهو يشاهد إهدار تلك القيم على يد الأستاذ المفترض؟ كان يقال إن من حسنات الغرب القدرة على تصحيح الأخطاء، وفعلا هذه حسنة فهل أضاعها كما أضاع الكثير من القيم أم يقيت عنده بحيث يمتلك مواجهة الحقائق بشجاعة؟ وعلى كل حال فإن الغرب في كلتا الحالين كان مع الفوضى وعدم الشرعية، ففي مصر كان مع الانقلابيين وفي أوكرانيا كان ضد الشرعية المنتخبة. أملي في أن يحظى العالم بقيادة واعية جامعة قادرة على قيادة العالم نحو الألفة والوفاق، قيادة تجنب العالم المخاطر المحدقة به، قيادة تكون مع الحق أينما كان، قيادة لا تستخدم قوتها في استغلال الضعيف وقهره، قيادة ماهرة تحسن في قيادة السفينة نحو بر الأمان وتؤدي الأمانة إلى أهلها، ألا ليتحرر العالم وليتعاون في البر والتقوى ولا يتعاون على الإثم والعدوان. إلهي ومولاي جنبنا الفتن ما ظهر وما بطن.