قبل أسبوعين انتشرت الأخبار فى شوارع البلدة المسيحية شفا عمرو متحدثة عن زيارة الأب غبريال نداف إلى منزل إحدى العائلات وكاهن من طائفة الروم الأرثوذكس وعضو فى منتدى تجنيد الطائفة المسيحية فى الجيش الإسرائيلى وهو عمليًا الأب الروحى لهذا التنظيم الذى نشأ فى أغسطس 2012، وجعل هدفه الأساسى تشجيع الطائفة المسيحية على الخدمة العسكرية فى الجيش الإسرائيلى. ولم يمض وقت قليل على بدء الاجتماع حتى حضر إلى المنزل عدد من الشبان الذين سمعوا به وطلبوا من الأب نداف ومن جاء برفقته مغادرة المكان. فضل صاحب البيت إنهاء الاجتماع تفاديًا لوقوع مواجهات عنيفة. لكن قادة الاحتجاج ضد المبادرة الذين ينتمون فى أغلبيتهم إلى حركات سياسية مثل حَداش [الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة] وبلد [التجمع الوطنى الديمقراطى] يعلمون بأن هذا الاجتماع لن يكون الأخير، وهم تعهدوا بأنهم سيكررون احتجاجهم فى كل مرة يدق فيها أعضاء المنتدى باب منزل عربى للدعوة إلى الخدمة العسكرية فى الجيش الإسرائيلى. وصرح أحد قادة الاحتجاج -بحسب جاك خورى فى صحيفة "هآرتس"، 9/2/2014- قائلًا: "يجب دفن هذه المؤامرة". لكن على ما يبدو لن يؤثر ذلك فى نشاط المنتدى؛ إذ يؤكد أعضاؤه أن الاجتماعات فى المنازل والكنائس ستتواصل والجولات ستزداد. واستنادًا إلى كلامهم، فإن العديد من المسيحيين فى شتى أنحاء البلد يتوجهون إليهم ويطلبون الاجتماع بهم. وهذه الحادثة تشكل نموذجًا للجدل الدائر منذ بضعة أشهر بشأن تجنيد المسيحيين فى الجيش الإسرائيلى، والصراع الدائر فى ظل تهديدات متبادلة تتحول أحيانًا إلى أعمال عنف حقيقية، وهو صراع على الرأى العام. وعلى الرغم من أن الجيش الإسرائيلى لا يقدم أرقامًا دقيقة للمسيحيين الذين يؤدون خدمتهم العسكرية، إلا أنهم فى المنتدى يتحدثون عن زيادة فى أعداد المسيحيين المجندين فى الجيش. واستنادًا إلى كلامهم، هناك اليوم نحو 300 جندى بينهم 157 فى الخدمة الإلزامية. وتظهر الأرقام التى قدمتها وزارة الدفاع الصهيونية فى مؤتمر عقد فى نهاية السنة الماضية فى الناصرة العليا، أنه خلال النصف الثانى من سنة 2013 تجند 84 مسيحيًا. ومثل هذا العدد كان يتجند خلال عام ونصف العام. ويقولون فى المنتدى إن هناك العديد من الشبان يرغبون فى التجند عندما يحين الوقت. من هؤلاء الرائد إلياس كرم من سكان قرية عِلبون فى الجليل الأسفل، وقام بخدمته العسكرية على سفينة صواريخ تابعة لسلاح البحر، وهو اليوم يخدم فى القاعدة البحرية فى حيفا والرائدة كارين أزار، قائدة مكتب التعبئة العسكرية فى طبريا، التى يتوجه إليها معظم المجندين من المسيحيين، وتدل الأرقام التى يقدمها المنتدى بشأن التطوع فى الخدمة الوطنية [المدنية] على وجود ما لا يقل عن 429 شابة مسيحية فى هذا الإطار حاليًا. يقول كبار الطائفة المسيحية إن مشكلة تجنيد المسيحيين مطروحة منذ قيام الدولة الصهيونية، ففى الخمسينيات والستينيات برزت محاولات ما لبثت أن استبعدت من جدول الأعمال فى أعقاب ضغط شعبى أو عدم اهتمام من جانب الشبان المسيحيين الذين كانوا يفضلون الحصول على شهادة جامعية على التجنيد فى الجيش. وفى العقد الأخير ظهرت المحاولات من جديد عقب مناوشات مسيحية إسلامية يعززها الاحتلال الصهيونى، فعلى سبيل المثال، عندما برزت المطالبة قبل عقد بتشييد مسجد شهاب الدين فى المنطقة المتاخمة لكنيسة البشارة فى الناصرة، ارتفع عدد المجندين من المسيحيين فى الجيش الإسرائيلى. وفى سنة 2005، أحرقت عشرات من منازل المسيحيين فى قرية مرار فى الجليل الأسفل، وكان هناك من رأى فى الانضمام إلى الجيش نوعًا من الدفاع عن النفس. وفى الأعوام الأخيرة لم يشهد المجتمع العربى فى إسرائيل حوادث استثنائية، لكن على ما يبدو فإن السبب الذى شجع على المبادرة الحالية للتجنيد فى الجيش يعود إلى ما يجرى خارج إسرائيل. ففى رأى بعض المؤيدين للتجنيد أن الصور القاسية للكنائس القبطية التى تعرضت للهجوم فى مصر، وعملية قطع رءوس الكهنة فى سوريا، عززت الشعور بعدم وجود طرف يمكن الاعتماد عليه فى العالم العربى، وأن الاندماج بإسرائيل يشكل أفضل درع يحمى المسيحيين كما يقول بعض مؤيدى التجنيد فى الجيش الإسرائيلى. لكن المعارضين للتجنيد يرون فى هذه التبريرات حججًا واهية وتفسيرات غير صحيحة للموقف المرفوض الذى يخدم بصورة أساسية المصلحة الصهيونية واليمين، ويلحق الضرر بالعلاقات مع المجتمع العربى الفلسطينى داخل إسرائيل. وفى رأى هؤلاء، فإن هذا يخدم سياسة "فرّق تسد" التى تتقنها حكومات إسرائيل التى بدلًا من التعامل مع المجتمع العربى الفلسطينى داخل دولة إسرائيل كأقلية قومية، فإنها تفضل تقسيمه إلى طوائف "دروز، مسلمين، مسيحيين". إنها محاولة لضرب العلاقات داخل المجتمع العربى، واستئصال الهوية العربية الفلسطينية من المسيحيين". المجتمع المسيحى تشرذم يقول د. جونى منصور -المؤرخ والمحاضر فى الكلية الأكاديمية فى بيت بيرل-: إنه منذ 1948 لم تتغير علاقة الدولة بالعرب. ويتابع: "المجتمع المسيحى مثل المجتمع الفلسطينى بأسره، تشرذم إلى أجزاء. وهم يتحدثون اليوم عن الاندماج والولاء للدولة. فهل حاولت حكومات إسرائيل عبر مرور الزمن ترميم العلاقات مع الطائفة المسيحية والجمهور العربى عامة؟ وماذا سيقولون للسكان الذين اقتلعوا من قريتى إقرت وبرعم وما يزالون ينتظرون منذ 1948 تنفيذ التعهدات الرسمية بإعادتهم إلى قراهم، فى ظل تجاهل كامل لقرار المحكمة الإسرائيلية العليا الصادر سنة 1952"؟ وفى رأى د. منصور أن الأغلبية الساحقة من المسيحيين لا سيما الشباب، يدركون جيدًا أن إسرائيل لن تتعامل معهم على قدم المساواة حتى فى حال قاموا بخدمتهم العسكرية. وأفضل دليل على ذلك ما يجرى فى المجتمع الدرزى الذى لا يحظى بالمساواة كطائفة، وتزداد داخله الأصوات المعارضة للتجنيد. ويخلص إلى القول: "إن الأغلبية الساحقة من أهالى الشباب المسيحى يؤمنون بالدراسة الأكاديمية وبسلاح العلم لا بحمل السلاح". معارضو التجنيد ويقول المعارضون للتجنيد إن الزيادة فى أعداد المجندين هى نتيجة تأثير اليمين ولا تعبر عن رغبة حقيقية لدى السكان. وما يؤكد هذا الكلام الاستقبال الذى خصصه رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو قبل شهر ونصف الشهر فى مكتبه بمناسبة عيد الميلاد للكاهن نداف. كما أن دخول نائب الوزير أوفير أكونيس والموظفون فى وزارة الدفاع الصورة مؤيدين وداعمين للمنتدى الذى يرأسه نداف، زاد من المعارضة له ومن المخاوف بأن يكون المشروع ممولًا من جانب أشخاص فى الحكم. ويعترف سامر جوزين -من قرية عيليت وعضو فى إدارة المنتدى- بأن التأييد الذى أبداه رئيس الحكومة للمنتدى أسهم فى زيادة المعارضين للمبادرة. لكنه أوضح أن المنتدى حتى الآن لا يحظى بدعم مالى. وفى اعتقاده أن هذا قد يأتى لاحقًا، وأنه حتى الآن يعتمد المنتدى فى نشاطاته على تبرعات الأعضاء. ثمة جبهة معارضة جديدة فتحت ضد التجنيد من جانب رجال الدين المسيحيين، ففى المدة الأخيرة أصدر رؤساء الكنيسة الكاثوليكية فى إسرائيل بيانًا ضد التجنيد وانعكاساته، وقالوا فيه إن هدف التجنيد هو "إدخال المسيحيين بوتقة الصهر فى المجتمع الإسرائيلى بهدف خلق رواية وطنية صهيونية موحدة. وبذلك يخسر العرب فى إسرائيل وبينهم المسيحيون، هويتهم العربية الفلسطينية، ويتبنون الهوية الإسرائيلية، مما يتعارض مع القيم الإنسانية كلها ومع الضمير الوطنى الفلسطينى".