لايوجد فى تاريخ الآداب العربية امرأة أخلصت لذكرى أبيها كما أخلصت كريمة زكى مبارك ابنة الدكاترة زكى مبارك، جاحظ القرن العشرين، أثرى المكتبة العربية بالعشرات من الكتب القيمة، ولقد ظلم هذا الرجل فى حياته وبعد مماته، حصل على أعلى الدرجات العلمية من الجامعة المصرية، ومن جامعة باريس.. حصل على ثلاث دكتوراه فصار يدعى (الدكاترة زكى مبارك)، وبالرغم من ذلك لم يعين فى الجامعة وتعرض لمضايقات واضطهاد، كان يجهر برأيه الصريح فى معاصريه، مبينا عيوبهم ونفاقهم وتملقهم، لم يعرف النفاق الاجتماعى الذى كان معاصروه يتعاطونه.. حتى تسير قافلة الزمن...أما زكى مبارك فكان ينتصر لفكرته ومبادئه.. لا يستطيع أحد أن يثنيه عن رأيه مادام هو يؤمن به.. وفى ليلة باردة من ليالى يناير يعود زكى مبارك من سهرته المعهودة فيتعثر على رصيف شارع التوفيقية، فيخر ساقطا على الأرض وكانت نهايته المأساوية، ولم يشعر برحيله أحد فقد كان التوتر مستعرا بين مصر والإنجليز فى جبهة قناة السويس، وبعد رحيله بيومين يصل ذلك الصراع لذروته، تحدث معركة الإسماعيلية ويعقبها حريق القاهرة وبعدها بستة أشهر تنفجر ثورة يوليو سنة 1952 وتنشغل الناس بها سنوات، ونسى الناس زكى مبارك الذى أمتعهم وناضل من أجل إمتاعهم بأسلوبه البيانى الرائق وبأفكاره التى نادى بها. وتشمر ابنته الكاتبة والإذاعية كريمة، وكم هى كريمة حقا وقد كان أبيها محقا وصدق حدسه عندما سماها كريمة، وتقرأ تراث أبيها الغزير وتجمعه من بطون المجلات والصحف وتدرسه وتجمعه فى كتب أجلت النقاب عن هذا العملاق الذى لم ينتم لحزب يرفعه ويجعله فى الصدارة كما رفع غيره من أقرانه الذين شهرتهم السياسة وانتماءاتهم الحزبية بالرغم من أنه شارك فى وقائع وأحداث ثورة 1919 وكان خطيبها المفوه، وتعرض للسجن والاعتقال، لم يكن يبغى وهو يجاهد ويناضل عرضا أو منصبا أو مقعدا فى البرلمان... هذا الرجل الذى كان حساسا للغاية يتعامل مع الحياة بإحساس فنان مرهف كيف وهو الشاعر المرهف، الذى كان شعره يعانق الطبيعة ويترجم الأحاسيس ويروى النفوس الظامئة. والكاتبة كريمة زكى مبارك من مواليد القاهرة فى 31يوليو 1929 فى بيت والدها الذى كان غريبا عن مصر فى هذا التوقيت.. كان فى رحلة علمية على حسابه الخاص لنيل الدكتوراه من جامعة باريس فى رسالة عنوانها «النثر الفنى فى القرن الرابع»، عملت بالإذاعة فور تخرجها فى كلية الآداب عام 1956 فقدمت العديد من البرامج الثقافية مثل: "حياتنا الثقافية"، و"سؤال وجواب"، و"زيارة أدبية"، و"نافذة على الثقافة"، و"أدباء الأقاليم"، و"نافذة على الأدب"، و"المجلة الإسلامية"، و"مع الزجل".
وفى عام 1975 عينت فى منصب مدير عام برامج الأسرة بإذاعة القرآن الكريم وقدمت فيها برامج "منهج القرآن فى بناء المجتمع"، و"المرأة المسلمة"، و"الفتاة المسلمة"، و"مع الشعر"، وفى عام 1979 سافرت إلى المملكة العربية السعودية فى مهمة لتغطية رحلة الفائزين فى مسابقة القرآن الكريم إعلاميا وتسجل أثناء هذه الرحلة سهرات دينية وتسجيلات خارجية وتستمر شعلة من النشاط حتى إحالتها للمعاش فى 31/7/1989. (الشعب الجديد) التقتها لتحتفى بها وتسألها عن ذكرياتها مع والدها والدافع الذى جعلها تتجه لجمع تراث والدها وموضوعات أخرى.
وفى البداية سألناها عن ذكرياتها مع الوالد الأديب زكى مبارك فقالت لنا: «كان أبى يعمل مفتشا فى وزارة المعارف العمومية (التربية والتعليم الآن)، ويجلس كل يوم فى حديقة منزلنا ويطلب كرسيا له وكرسيا لى ويطلب أن أجلس بجواره، وأقرأ له "جريدة البلاغ" من (أشهر الصحف فى ذلك الوقت) كل يوم، وقد أخطئ وقد أصيب ويسألنى عن الخطأ ويصححه، ومن هنا أحببت اللغة العربية وارتبطت وجدانيا بزكى مبارك وبعد رحيله أصبت بالصدمة وشعرت بالدفء يغادر وجدانى، وبدأت رحلتى معه أجمع شتات تراثه الموجود بالمجلات والصحف والدوريات وأصدرت أكثر من ثلاثين كتابا عنه.
وتستكمل ذكرياتها: «كان والدى شاعرا مجيدا مطبوعا خلف بضع دواوين جمعت أنا أكثر من خمسة منها، وتعلمت منه الشعر وحبه وكان يقول: «لو كانت المرأة تبوح بسرها كما يبوح الرجل لعرفنا الكثير عن شخصية المرأة»، ومن هنا بدأت أعبر عن المرأة بدون خجل وبوضوح، وفى أيامنا كان النساء لا يتحدثن عن الرجل كحبيب». *كيف ابتدأت رحلتك فى جمع تراث زكى مبارك؟ - تعرض والدى للإهمال فى حياته وبعد مماته، كُرم أقرانه وزملاؤه فى درب الأدب والفكر، وسلط الضوء على طه حسين كثيرا وحصد الجوائز والتكريم، أما والدى فتعرض لمؤامرة من الصمت، فأليت على نفسى وغيرت من اتجاهى، حيث كانت بدايتى مع الشعر، فعكفت على التنقيب فى آثاره، فلقد مرت سنوات وسنوات وكانت آثاره مبعثرة فى الجرائد والمجلات، وفى ذلك يقول زكى مبارك: «أين من يفتش فى دفاترنا بعد الموت ليرى ما سطرناه من أخلاق هذا الجيل؟ إن كلمة تضم إلى كلمة فى ذكاء ولوذعية أشرف وأفضل من كنوز تضاف إلى كنوز، وأن جود الله بالفكر والروح على من يصطفيهم من عباده، لهو أطيب الهبات وأقسم الأرزاق...أقسم الله بالقلم، ولم يقسم بالمال، ونحن بالله مؤمنون». وكان أول كتاب جمعته هو «مجنون سعاد» سنة 1974، وتلاه ديوان «شط إسكندرية»، وكتب "زكى مبارك ناقدا" سنة 1978، و"ملامح دينية"، و"الفكرالتربوى عند زكى مبارك"، و"زكى مبارك وهؤلاء" وهو من الكتب المهمة وفيه من الموضوعات: أبو العلاء فى الميزان، والمازنى والعقاد والحديث عن الشعر، ومكانة سيد بن على المرصفى، والشاعرية عند صالح جودت ومحمود حسن إسماعيل، وكيف عرفت معروف الرصافى، وغيرها من الموضوعات، وجمعت من تراثه أكثر من ثلاثين كتاب. *من هو مجنون سعاد ومن هى سعاد؟ - كتب والدى عشرات من الرسائل نشرتها جريدة «البلاغ» تحت عنوان "مجنون سعاد" واحتار الناس فى تفسير من هى سعاد التى يعنيها الدكاترة زكى مبارك وظهرت الكثير من التكهنات والتفسيرات وأنا أجزم وأحسم هذا الجدال وهذه الرسائل كانت تكتب للأديبة جميلة العلايلى والدة الضابط جلال ندا. *ومن هى ليلى المريضة فى العراق؟ - ليلى المريضة يقال إنه كتبها يقصد بها اللغة العربية التى كان زكى مبارك يعشقها ويعشق بيانها الآسر، وشغف حبا، مدافعا عنها حتى رحيله، يغار عليها من هجوم المغرضين والرجفين، يدفع افتراءاتهم ولا يأخذه فيهم شفقة. *ما الجديد لديك فى خزانتك عن زكى مبارك؟ - قيد الطبع الآن كتاب «رسالة الأديب»، وكان قد طبع فى دمشق بوزارة الثقافة السورية فى سنة 1999، كما أن له مقالات لم تجمع بعد عن الوحدة العربية، فى "مجلة الصباح"، وكلها قيد الجمع والدراسة. *ما هى ذكرياتك مع الباحثين عن زكى مبارك؟ - الأدباء كثيرون منهم : محمود الشهابى الذى حصل على شهادة الدكتوراه فى أدب زكى مبارك من جامعة اكسترا ببريطانيا، والعربى حسن درويش فله رسالة تحدث فيها عن شعره، كما أن معظم أدباء مصر يرجعون إلىّ عند كتابة أبحاثهم عنه مثل: الأديب الصحفى محمد محمود رضوان، ومحمد عبدالحكيم محمد، وغيرهم. *كيف ترين زكى مبارك بعد ستين عاما من الرحيل؟ - مازال الرجل فكره وأدبه وروحه ومزاحه يعيش بيننا، فهو كان مهموما بالشأن المصرى والعربى، كان يمثل جامعة دول عربية متنقلة، ذهب إلى العراق وأبدع هناك وأضاف، وأحبه العراقيون ومازالوا يتذكرونه ويذكرون السنوات التى قضاها هناك إلى اليوم، وكما زار العديد من الدول العربية الأخرى، فهو لم يكن إقليميا ضيقا، بل يعتبر أديب الأمة العربية الأول بلا منازع ورغم مرور السنين، بدليل أن أول كتاب ظهر عنه كان بقلم الأديب الكويتى الكبير فاضل خلف، ثم أنور الجندى من مصر، وعبدالرزاق الهلالى من العراق، ثم توالت الأبحاث والكتب والرسائل الأكاديمية عنه فى الجامعات المصرية والعربية، فهو معين لا ينضب.