يسمونه قانون طوارئ، والحقيقة أن التسمية تنطوي علي تدليس واضح، فالشيء الاستثنائي إذا استدام يتحول إلي وضع دائم، وقانون الطوارئ، مع الإجراءات الاستثنائية، صار منظومة دائمة مستمرة لسبعة وعشرين عاما، وتمتد لمدة عامين آخرين، حتي نهاية أيار (مايو) 2010، وقد تتجدد لمدد مفتوحة، مثل مدد الرئاسة، أو بأثر التوريث، الذي أخذ شكله النهائي في التبلور، وبدأ رجال الأعمال يروجون له، بحماس بالغ، وتشعر وأنت تتحدث مع بعضهم أنهم يسعون لاستغلال جمال مبارك كجسر يعبرون عليه إلي مؤسسة الرئاسة، وهذا توجه واضح لدي جناح أحمد عز، الذي تمكن من الاستيلاء علي الحزب الوطني الحاكم، وهناك من يفصح صراحة عن طموح صاحب أكبر احتكار للحديد في الوصول إلي منصب الرئيس. وقانون الطوارئ والإجراءات الاستثنائية تمثل القاعدة، التي ليس لها استثناء، حسب ما يوحي به مدلول اللفظ. والاستثناء حين يتحول إلي قاعدة دائمة في تحديد علاقة الحاكم بالمجتمع والدولة، يخرج بهذه العلاقة عن السياق الصحيح، ويصنع الاختلال القائم في العلاقة بين المواطن ونظام الحكم، ومع قناعتي الشخصية بأن وصف حكم حسني مبارك بالنظام السياسي ليس دقيقا، وهو وصف آخر مضلل إلي حد كبير، فليس لمصر الآن نظام سياسي، بالمعني الحديث، حتي لو كان استبداديا، وما لديها ليس سوي حالة من العشوائية السياسية، وصورة من اللانظام، الأقرب إلي الحكم الشخصي الذي يختزل مهمته في الحفاظ علي مصالح شخص محدد ومصالح عائلة بعينها، تشكل محاور ومراكز المصالح الأخري. وبذلك اختزلت مؤسسات الحكم والدولة إلي حجم عائلة، مكونة من أربعة أشخاص. اقتسمت المسؤولية والسلطة والغنيمة والنفوذ بينها. وتحكمت في موارد ومصادر الثروة الوطنية، العامة والخاصة. صارت أكبر من الجميع، وفوق القانون، وخارج نطاق أي تقليد خاص أو عرف عام، وكانت النتيجة أن عائلة بهذا الحجم الصغير. كانت تحتل موقعا عاديا بين أبناء الطبقة الوسطي. أصبحت علي درجة عالية من الثراء، ضمها إلي نادي أصحاب المليارات في البلاد. ونشأ هذا الوضع من استثمار السياسة والحكم في تكوين الثروة، وما ترتب عنها من نفوذ وقوة، دون إجابة عن سؤال يتعلق بمصدر هذه المليارات ومدي مشروعيتها، ومثل هذا الوضع الذي تعيشه عائلة مبارك يفرض تحويل الطوارئ والإجراءات الاستثنائية إلي حالة دائمة. هذا الاختزال هيأ ل عائلة مبارك التحكم في مقدرات البلاد والتحكم في مسارها، دون ضوابط من أي نوع، حتي أصبحت تتصرف فيها تصرف المالك فيما يملك، وعندما تضيق دائرة المصالح، وتنحسر في عدد محدود وضئيل إلي هذا الحد، تتآكل القاعدة الاجتماعية للحكم، ويغيب فيه الإحساس بالأمان، ويفقد ثقته بنفسه وبالآخرين داخله وخارجه، ولأنه حكم يعي بأن ما حصل عليه ليس من حقه، فهو في صدام شبه دائم مع نفسه ومع قطاعات عريضة من الشعب، فعزل نفسه عنها وعمل علي حماية نفسه ورجاله وخدمه في مستوطنات وقصور وقلاع مغلقة، أشبه ب الغيتو اليهودي في العصور الوسطي. ودوام هذه القوانين والإجراءات أساء إلي مصر إساءة بالغة، لأنه يضعها في عداد الدول الفاشلة والكيان الرخو، المعرض للخطر، إذا لم ينهض ويتغير سريعا، في المدي المنظور. ويبدو عنصر التعمد واضحا في الإصرار علي السير علي الخطي المنشئة للاستبداد، والراعية للفساد، والمستسلمة للتبعية، والصانعة للجوع، الذي ضرب بقسوته استقرار قطاعات عريضة، لا قبل لها بأعباء الغلاء، المصاحب للإفقار المنظم. وتجديد قانون الطوارئ يدخل في عداد الجريمة المستمرة، التي ساهم فيها جناة آخرون. يتحملون المسؤولية. هم فئة القانونيين المعروفين ب ترزية القوانين ، وهي فئة تتحرك بخيوط يمسك بها رجال كل العصور . ممن احترفوا السياسة، علي مدي عقود. واحتلوا مواقع أشبه بأقنان الإقطاع وخدم السلاطين. ويتجاهلون أن قواعد ومبررات استخدام قانون الطوارئ تنحصر في ثلاث حالات هي: 1) الحرب أو تعرض البلاد لحالة حرب. 2) الكوارث، كالزلازل والبراكين والفيضانات والطوفان المدمر. 3) انتشار الأوبئة المعدية والفتاكة التي تعرض حياة المواطنين للخطر الجماعي، مثل الكوليرا والجزام والسل. ولا تعلن الطوارئ لغير ذلك. ودول العالم وهي تواجه المخاطر والأزمات لا تصنف ما تواجهه ضمن هذه الحالات الثلاث، ولا تضعها علي مستوي واحد، مع الحروب والكوارث والأوبئة، وتتجنب إعلان الطوارئ أو تطبيق الإجراءات الاستثنائية، لأن ذلك يسيء إليها كثيرا، ويعطي الانطباع بضعف الحكم فيها وعجزه وعدم كفاءته. وهذه البلاد تري القوانين العادية كافية لحل مشاكلها، وقادرة علي مواجهة المخاطر التي تتعرض لها. لم يستطع حسني مبارك ومنذ لحظة وصوله إلي الحكم الاستمرار ليوم واحد بغطاء القانون الطبيعي، واحتاج استمراره إلي بطش وترويع وردع. ولم تسجل له هفوة يفصح فيها عن رغبة، ولو عابرة، يجرب فيها الحكم بلا قوانين استثنائية، وغلبت عليه حاجته إلي رخصة تمكنه من فرض نفسه بالقوة، وتجنب التعرض للمحاسبة، وزيادة في التحوط تماهي في المجهود السياسي والاقتصادي والعسكري الصهيو أمريكي. وحين يحول حسني مبارك الطارئ إلي دائم، فمعني ذلك أنه أعلن حربا دائمة علي المصريين، حصنت منظومة الفساد، التي تدير السياسة والاقتصاد والتجارة والصناعة والمال، وعززت سلطات وصلاحيات ابنه وزوجته الدستورية والتنظيمية الواسعة والباطلة، التي لا تتوفر لأي مسؤول، مهما علا شأنه وزاد قدره في الدولة والحكم. ومصر الرسمية كانت قد أعلنت، علي لسان السادات، أن حرب تشرين الأول (اكتوبر) آخر الحروب، أي من المفترض أنها طلقت الحروب، وتخلت عن حقها في الدفاع عن النفس، وألقت بمعاهدات ومواثيق الدفاع العربي المشترك جانبا، وحمل لنا هذا الإعلان معني آخر، هو أن مصر هذه، التي ليست لنا، وليس لها بشعبها صلة، لم تكن تعني من إعلانها سوي أنها طلقت حروب التحرير والمقاومة والدفاع عن النفس. مما جعلها تسارع في المشاركة في حصار البلاد العربية، بدءا من السودان وليبيا، وصولا إلي العراق وغزة، وتهرول لتأييد غزو المنطقة وإعطاء المشروعية له، بالجهد السياسي والدعم المادي. وقد ساهمت مصر الرسمية، بشكل مباشر وغير مباشر في المجهود العسكري والعملياتي المعادي، وقدمت تسهيلات، ووفرت قواعد لمرور الجيوش الغازية، وفتحت الأراضي والممرات المائية والجوية لتيسير وصولها إلي أهدافها المقصودة، وكان ذلك واضحا في حرب الخليج الثانية سنة 1991، وغزو العراق عام 2003، وخنق غزة، والتحريض علي المقاومة اللبنانية، من منتصف 2006 وحتي الآن. والتدليس هو الذي أبقي علي القوانين والإجراءات الاستثنائية لتغطي علي الانتكاسة التي لحقت بالعقيدة العسكرية والتوجهات السياسية الرسمية، وأملتها مطالب إنتقال الأشقاء والأصدقاء إلي خانة الأعداء والخصوم. واحلت الأْعداء والخصوم محل الأشقاء والأصدقاء، وجانب من التدليس تمثل في إدعاءات تقول بأن قانون الطوارئ لا يطبق إلا علي الإرهابيين، بينما هو في حقيقته مصادرة علي الحقوق القانونية والسياسية والوطنية والإنسانية للمواطن. ودليلنا هو كم قرارات الاعتقال التي وقعها أو أمر بها حسني مبارك. ويقدرها خبراء القانون ونشطاء حقوق الإنسان أنها ما بين سبعمئة وخمسين ألفا ومليون قرار، وهو رقم يمكن أن يدخل موسوعة جينس للأرقام القياسية، بجانب أن جمعية المساعدة القانونية بالقاهرة تشير، في آخر بياناتها، إلي أن عدد المعتقلين الحاليين يتراوح ما بين 20 و30 ألف معتقل. هذا الإصرار علي تمديد وتجديد قانون الطوارئ والإجراءات الاستثنائية يعني أن حرب حسني مبارك الشخصية والعائلية ضد الشعب لن تضع أوزارها بقرار منه، إنما بموقف من الشعب. وأمام هذا الصراع المحتدم كثيرا ما يسأل القراء عن الحل، وتتعدد سبل الرد علي هذا التساؤل، وجزء من الرد هو ذلك التشخيص الذي نركز عليه لتيسير عملية التعرف علي طبيعة الحكم في مصر. والذي انتهي إلي أن الحل هو في تغيير هذا النظام ورحيل رموزه، وهذه ليست مهمة فصيل أو جماعة واحدة دون أخري. ومطلوب من قوي التغيير، المناهضة لحكم حسني مبارك وعائلته، صياغة شعار جديد هو الرحيل هو الحل . كهدف مرحلي. تتهيأ له الوسائل والأدوات والإمكانيات التي تؤدي إلي تحقيقه، بعد أن أصبح الرحيل ضروريا لفتح باب التغيير، وعلينا أن نعي أهمية تجاوز دعاوي تغيير الحكم إلي العمل علي بناء نظام جديد يلبي احتياجات المصريين الملحة، في الحرية والديمقراطية والعدل الاجتماعي والوحدة الوطنية والقومية. والمصريون الذين تمكنوا من تغيير النظام الملكي إلي نظام جمهوري رئاسي، عليهم عبء تغيير النظام الحالي، بعد أن أفرغه حسني مبارك من مضمونه، واختزله في شخصه وعائلته، مستبد وفاسد وتابع، عليهم أن يستبدلوه بنظام جمهوري برلماني، تكون فيه الغلبة لسلطة ممثلي الشعب علي سلطة رئيس الدولة والحاكم الذي لا يتمكن ويفشل في تصحيح أخطائه وخطاياه، يعطي الناس الحق في تحمل المسؤولية، وفي أخذ الأمر بيدهم، فيتولون التصحيح والتغيير بأنفسهم، والأساليب السلمية متاحة، إذا ما وثقت الجموع في قدرتها علي الفعل الإيجابي، وفي جهدها المؤثر في انجاز التغيير المطلوب. وقد قطع المصريون شوطا كبيرا علي هذا الطريق، واقتربوا من إحداث التعادل والتوازن بين عنف قوي الأمن ووحشية البلطجة السياسية، وصمود وتحمل قوي التغيير. وهو الشيء الذي جاء مصحوبا بسلوك جماعي، يتسم بالوعي والقدرة علي التضحية والمبادرات الجسورة. وتباعا تعودت الجموع علي الخروج احتجاجا، تواجه بصدورها العارية جبروت السلطة، وتتحمل في سبيل ذلك وطأة الاعتقال والملاحقة والتعذيب، وأضحت الحركة الجماهيرية مؤثرة، وتبث الرعب في قلوب بقايا حكم. وصفه الفقيه القانوي ابراهيم درويش في حديثه إلي المصري اليوم يوم الأربعاء الماضي. بأنه يعيش حالة موت سريري.