الإهداء: الي الطفلين الشهيدين: أميرة أبو عصر ومحمد البرعي.. الي المصور التلفزيوني الشهيد: فضل شناعة.. والي كافة شهداء الأرض المحتلة.. في رحيلهم الشامخ.. عندما يتألّم البشر والأرض تحت وطأة احتلال قاهر، ويتمّ تغييب الحقوق، لا بدّ أن تتوفّر ارادة صادقة للاجابة علي سؤال البقاء والاستمرار، والتحدي. غير أنّ سؤالا آخر ينبت علي حواشي الواقع: هل بامكاننا صياغة معادلة واضحة تقول: انّ المقاومة الفلسطينية في تجلياتها الخلاّقة، كانت دوما في مواجهة الخداع، ورافضة بالتالي لمحاولات اسباغ الوهم علي الحقيقة؟ وبسؤال مغاير أقول: هل بامكاننا الآن.. وهنا، وفي ظل واقع يرفض الخديعة، تغطية الشمس بالأصابع ومواصلة تكريس وهم يؤسس لسلام بائس أفرزته ثقافة التسوية!؟ أم أنّ الواقع يؤشر الي امكانية الانتفاض علي هزيمة يُراد لها أن تكون أبدية طالما هناك شعب مستعد للتضحية في سبيل استرداد حقوقه المستلبة؟ سأصارح: يتدفق خضاب الدّم بغزارة.. تتقدّم قوافل الشهداء صوب القبور، ويرتفع في المقابل نباح الرشاشات، و نعيق المدافع، ويتواصل سقوط الأبطال دون انقطاع، وخلف خطوط الانكسار نقبع جميعا في وجل، نتلمّس أوجاعنا.. ونخبئ في عيوننا قهرنا القاتل.. ونردّد كلمات لم نعد نعرف كيف نكتبها: هل الواقع مرعب الي هذا الحد؟ هل الوعي مغيّب الي هذا المستوي أم أنّ التأخّر أضحي هبة التاريخ للأمة العربية والاسلامية ومانح خصوصيتها وشكل تمفصلها في التاريخ!؟ سأصارح: سال دم كثير في انتفاضة الأقصي، ولا يزال مستمرا في النزيف.. وما زالت كذلك قوافل الشهداء تسير خببا في اتجاه المدافن، الا أنّ المقاومة المتجددة ما زالت بدورها ترسم جملة من الحقائق وتعري كما هائلا من الأوهام، لتكشف بذلك عن طبيعة عدوّ نازي يمارس كل أشكال القهر والعنصرية والظلم والطغيان، وهذا يعني أنّها نجحت في اعادة الأمور الي أصولها، وأظهرت القوّة في الضعف لدي الفلسطيني، والضعف وعدم القدرة علي اجتثاث الجذور لدي المحتل، وصاغت بالتالي معادلة ما يسمّي ب توازن الرعب رغم الاختلال السافر في توازن القوي والامكانات المادية والعسكرية والسياسية. فماذا يعني هذا؟ هذا يعني أنّ اسرائيل التي تستمد قوّتها من أمريكا لا تروم الوصول الي تسوية، بقدر ما تسعي الي فرض واقع، وهذا الأمر الواقع يتماهي مع المستجدات الدولية تبعا لموازين القوي وخصوصا في ظل راهن عربي يشهد مزيدا من التشرذم والانقسام، الأمر الذي يمنح اسرائيل مكاسب اضافية. وعليه فانّ أي حل لا يعدو كونه صفقة مربحة لترويج البضاعة الفاسدة مجددا وتحت نفس الشعار: العودة الي طاولة المفاوضات أو العودة الي ما كانت عليه الأوضاع قبل: 28/9/2000، وذلك دون تغيير ايجابي علي أرض الواقع. الا أنّ الصمود الفلسطيني ما فتئ يتذاكي ويزداد اصرارا علي استرداد الحقوق السليبة والمستلبة، ناسفا في آن واحد الوعود الزائفة والمعرّضة أبدا للتناقض حد الاضمحلال ورافضا لواقع الاحتلال عبر صيغة دولة هي الحكم الذاتي مستأنفا دون تغيير جوهري في الواقع.. لذا لا عجب أن يعود الفلسطينيون الي معادلة الاحتلال والتحدي من خلال المقاومة التي انبرت منذ انبجاسها من ضلوع الألم ترسم وتحدّد العلاقة ثم الأدوار بين ما هو قطري وبين ما هو قومي، ومن له حق التصرف ومن يحقّ له الاعتراض، متجاوزة أبدا كل محاولات الاختزال والتدجين الرامية الي تحويلها الي مجرّد جملة معترضة في كتاب العرب الامتثالي. أقول هذا كلّه لأؤكّد علي أن القضية الفلسطينية برمتها غير قابلة للاختزال في ثنائية أن تكون دولة فلسطينية أو أن لا تكون، وعلي أي مساحة من أرض فلسطين قد تقام، بل وفق أي شروط وحقوق! أردت القول: اذا كان المحرك الأساسي للمقاومة هو رحيل الاحتلال ومستوطنيه، وهو كذلك، واذا كان انقشاع الأوهام التي راهنت علي الوصول الي سلام عادل وفق الآليات والأسس التي صاغها اتفاق أوسلو هو وقود اضافي لهذه المقاومة، فانّ وصولها الي ضفة التحرير وتحقيق هدفها الوطني هو رهاننا التاريخي الحاسم، خصوصا بعد أن ثبت عجز جنرالات الحرب في تل أبيب علي فرملتها من خلال الاجتياحات والاغتيالات واطلاق القوّة المجنونة من عقالها، الأمر الذي جعل كل محاولات الالتفاف السياسي عليها تبوء بالفشل لأنّها تؤسس للعودة بالزمن الي الوراء بينما تتأسس المقاومة الفلسطينية المتجددة علي قائمة أهداف محدّدة لا يجوز القبول بأقل منها. والخلاصة هي أنّ المقاومة متواصلة وهذا ما يؤمن به من يمتلك رؤية حقيقية ويرفض العماء المعمم، كما أن استمرارها لن يكون مفاجئا ولا صمودها مدهشا الا لأولئك الذين ما زالوا يعتقدون أنّه بامكانهم مواصلة خداع الواقع وتسويق الوهم بعد أن استكانوا لتزوير التاريخ.. لذا، وعلي العكس مما يشاع، فانها لا تعاني انسداد الأفق، بل ان من يعاني انسداد الآفاق حقا هو الكيان الصهيوني، أقول هذا في الوقت الذي أشاح فيه العرب بوجوههم عن القضية الفلسطينية ليصغوا بانتباه للصوت القادم من واشنطن والذي يدعوهم بصلافة الي الاتعاظ بما جري أو ما يجري في بغداد ! فاسحين المجال بذلك لآلة الموت الصهيونية لتحصد الرقاب.. فماذا بقي أن أضيف!؟ بقي أن أقول إنّ المقاومة تسير بخطي حثيثة صوب النصر المبين، ولن تتوقف أبدا عن المسير خصوصا بعد أن خلخلت حسابات المنطق وجسّدت هزّة عنيفة مخلخلة للوعي المخَدّر والمستَلب، وأضحت واقعا حيّا ممهورا بالدّم وشكلّت تبعا لكل التداعيات حرب استنزاف قدر العدوّ فيها هو الهزيمة والاندحار.. لذا لا عجب أن يمارس هذا العدوّ كل أشكال الارهاب باستخدام الدبابات والطائرات أف 16 .. وكل أدوات صناعة الموت، ولا عجب كذلك أن يواجه الفلسطينيون كل هذا الزخم من الدمار بصمود استثنائي وبقدرة مذهلة علي اجتراح أشكال جديدة للمقاومة مكنّتهم من ضرب العدوّ فيما يعتقد أنّه مناطق آمنة، وأربكت بالتالي خط دفاعه الأوّل.. وهذا يعني أوّلا وأخيرا أنّ الواقعة الاستشهادية لا تكون أساسا الا اجابة عن سؤال الحقوق والشرعية.. ممارسة في صياغة السؤال المطروح مما يجعلها ثورة في الانسانية، معترفا بنتائجها في الجهاز التقني لاستراتيجيات المجتمعات الباحثة عن المعادل البديل لفقدان الحقوق والقانون والسيادة. تونس