علي السطح يبدو أن أزمة الخبز التي اجتاحت مصر في الأسابيع الأخيرة, قد عكست أزمة أشد تتمثل في اتساع مساحات الفقر, وحدة ارتفاع الأسعار, خصوصا السلع الغذائية والاستهلاكية.. وكذلك فعلت أزمة نقص مياه الشرب في العام الماضي..
وقد بادر كثيرون إلي تبرير مثل هذه الأزمات الحادة, خصوصا نقص الخبز ونقص المياه, بارجاعها جميعا إلي مجرد سوء إدارة, أي إلي غياب واضح لقدرة الادارة الحكومية علي الانتاج والتوزيع السليم, ومن ثم جري إلصاق تهمة التقصير أو الفشل بالحكومة الحالية, التي طالتها سكاكين وخناجر أضعفت ثقتها في نفسها, علي المستوي الفردي وعلي المستوي الجماعي.
ولعلني أتفق جزئيا علي تبرير سوء الادارة أو غيابها, مما أدي إلي تراكم الأزمات دون أن تجد إدارة حكومية قادرة علي المواجهة, وابتكار الحلول والبحث عن مخارج للتخفيف عن المواطنين المنهكين.
غير أن الأصل والأساس في الأزمة يكمن فيما هو أكبر وأعم وأهم من الادارة, وأعني أن الفلسفة السياسية السائدة هي المخطط والموجه والمحرك للادارة لكي تعمل.. فالمفروض أن تكون هناك في أي مجتمع أو دولة, رؤية عامة وفلسفة سياسية حاكمة, تحدد الاختيارات وترسم التوجهات الفكرية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية بالطبع..
وفي ضوء هذه الرؤية والفلسفة السياسية الحاكمة, تأتي الحكومات والسلطات التنفيذية لتقوم بادارة الحركة, واختيار الطرق الأنسب لتحقيق أهدافها الكبري, وفق خطط زمنية محددة الأهداف والوسائل, ولذلك قلنا كثيرا من قبل إن مجتمعا بلا رؤية ونظاما بلا فلسفة سياسية, هو مجتمع أعمي ونظام بلا عقل..
وأظن أن مصر قد اختارت وبالتحديد منذ التسعينيات, واتباعا لنصائح البنك الدولي وصندوق النقد الدولي, أن تسير بسرعة في ما يسمي لبرلة اقتصادها, بالخصخصة وبيع القطاع العام والافراط في تفعيل آلية السوق وحرية العرض والطلب, وإطلاق يد القطاع الخاص ليتملك ويدير ويصدر ويستورد, بينما بدأت الدولة في تخفيف قبضتها علي حركة الاقتصاد, خصوصا الصناعة الناشئة والزراعة التقليدية القديمة, مثلما بدأت في التخلي عن بعض مهامها تجاه خدمات التعليم والصحة والتشغيل والأجور والأسعار وحماية المستهلكين..
وبين يوم وليلة, تحولت مصر من دولة الرعاية الاجتماعية التي طبقتها ثورة يوليو بقيادة عبدالناصر في سنواتها الأولي, والتي تخضع للهجوم الآن, إلي دولة ترفع شعار الليبرالية الاقتصادية, لكنها تحجم عن الليبرالية الأخري وهي الليبرالية السياسية, فوقع التناقض في أكثر من موقع, ولم تكن أزمات الخبز ومياه الشرب والري وجنون الأسعار والغلاء والاحتقان الشعبي إلا مظهرا وانعكاسا لهذا التناقض, بين ليبرالية اقتصادية منفلتة, وليبرالية سياسية محدودة! *** ورغم أن الوقائع تقول إن حكومة الدكتور أحمد نظيف لا تتحمل وحدها مسئولية كل ما جري, لأن الحكومة السابقة لها بقيادة الدكتور عاطف عبيد هي التي أطلقت القطار بسرعة الصاروخ, دون تمهيد سياسي اجتماعي, ودون استباق الأزمات بالحلول المفترضة, إلا أن كل ذلك يطرح سؤالا جوهريا علي الجميع..
ماذا لو لم يتدخل رئيس الدولة بشكل مباشر لتخفيف أزمة الخبز, ويعطي الحكومة تكليفات محددة تبدو بديهية, فهل كانت غائبة عن الحكومة أو أنها تتجاهلها, تحت شعار حرية العرض والطلب وآلية السوق, وليبرالية الاقتصاد, كما هو موقفها من كل ما يجري في السوق المصرية, من أسعار الحديد والأسمنت المنفلتة بلا قواعد, إلي أسعار السلع الغذائية الأساسية والبسيطة, التي شهدت ارتفاعا يصل إلي حدود160% خلال الشهور الأخيرة, كما تقول تقارير منشورة..
ويستتبع السؤال الأول, سؤال آخر, هو ماذا لو لم يتدخل جهاز الخدمة المدنية والشرطة بقدراتهما الانتاجية المتعاظمة, لفك أزمة الخبز, التي عجزت الأجهزة المدنية والوزارات الحكومية المختصة عن مواجهتها, بل تركتها تتداعي؟!
والاجابة معروفة علي السؤالين, إذ إن هذه الوزارات والأجهزة, تحكمها شذرات من الأفكار الليبرالية التي تؤمن بها, بينما تغيب عنها الرؤية الاجتماعية والفلسفة السياسية الحقيقية التي جاءت بها الليبرالية الحقيقية, والتي نراها مطبقة في الغرب الأوروبي الأمريكي, حيث مراعاة العدالة الاجتماعية والرعاية الصحية وقوانين العمل وتناسب الأجور مع الأسعار وحقوق المستهلك, وشبكة الأمان والضمان الاجتماعي الواسعة, وغيرها من الاجراءات المطبقة, تحمي المواطن من الاحتكار والفساد والاستغلال السييء للظروف وتقلبات السوق!
والنتيجة ان الادارة الحكومية هذه, تصورت أن مهمتها الأساسية هي الانتهاء سريعا من برنامج الخصخصة وبيع القطاع العام وأصول الدولة, من المصانع الاستراتيجية والبنوك, إلي الأراضي الشاسعة المزروعة والصحراوية تحت شعار الاستثمار, والتفريط في ثروات الوطن بتعجل وبأسعار منخفضة يعرف الجميع أنها سترتفع غدا, كما هو الحال مع المخزون القليل من النفط والغاز!
وبالمقابل رفعت يديها عن حكاية الرعاية الاجتماعية, حتي وإن رفعت أخيرا شعار العدالة الاجتماعية, وأطلقت آلية السوق وشهوة الاحتكار تطحن الفئات الأوسع والأكثر فقرا في مصر, فازدادت مساحة الفقر, حتي إن التقارير الدولية تقدرها بأنها بلغت نحو48% من الشعب المصري, وهي نسبة لم تحدث من قبل, بل إنها تهدد بانفجار اجتماعي خطير..
ومما زاد الطين بلة والأزمة تعقيدا, أن الذين أشرفوا علي كل هذه التحولات السريعة, ويسمون أنفسهم الليبراليين الجدد, قد تشكلوا غالبا من نوعين, نوع يبدو أنه من الهواة, الذين التقطوا بعض السياسات من الليبرالية الأوروبية, دون دراسة معمقة وجاءوا لتطبيقها علي الوضع المصري, والنوع الثاني يتمثل في رجال الأعمال وجماعات المصالح, الذين رأوا في هذا المناخ فرصتهم الكبري للكسب ومضاعفة الثروات وشراء القطاع العام وأصول الدولة بأبخس الأسعار, وفرض أجندتهم حتي علي التشريع وصياغة القوانين التي تسهل مهمتهم! *** وهكذا اتفق الطرفان المشار إليهما, واحد يريد تطبيق أفكاره المجتزئة وآخر يريد تحقيق أقصي ربح ممكن في أقصر وقت, دون مراعاة للأغلبية الساحقة من المواطنين, التي تنحدر بسرعة نحو الفقر والبطالة والاحتقان الاقتصادي الاجتماعي والسياسي بل والنفسي والعصبي.. وانظر وتأمل الشارع المصري وأحواله..
لم يكن غريبا إذن, أن نسمي ما يجري حاليا الليبرالية الشرسة, وهي بالطبع غير الليبرالية ذات البعد الاجتماعي, التي يطبقها مثلا حزب العمال في بريطانيا, باسم الطريق الثالث, ما بين الرأسمالية والليبرالية المتوحشة, وبين الاشتراكية والماركسية المتوارية.
ولم يكن غريبا أيضا أن يصل الاحتقان في المجتمع المصري مداه الخطير, كما هو حاله اليوم, ففي ظل انفلات هذه الليبرالية الشرسة, وغياب قواعد العدالة سواء في توزيع الدخول والثروات, أو في توزيع الأعباء, وإطلاق حرية رجال الأعمال, ومعظمهم تجار وليسوا منتجين حقيقيين, انتفض كثير من فئات الشعب المطحون, كل يطلب بعض حقوقه, عبر التظاهرات والاضرابات والاعتصامات!
لم يكن غريبا أن تتصادم هذه السياسات بكل عنف, مع مصالح وحياة العمال والفلاحين, مع القضاة والصحفيين, مع أساتذة الجامعات والأطباء, مع المعلمين والمهنيين وغيرهم كثير.. أي مع الشغيلة والمفكرين...
المطرقة النازلة بعنف زادت من حدة الاحتقان, الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والثقافي, وسرت روح في المجتمع تنادي بأن يأخذ كل واحد حقه بذراعه, كما يفعل رجال الأعمال وتلاميذ الليبرالية الشرسة..
فهل إلي خروج من سبيل ؟! خير الكلام: يقول محمد مهدي الجواهري: نامي جياع الشعب نامي حرستك آلهة الطعام