بمصطلحات السيسى، لا تحتاج أدنى قدر من ال«فكاكة» لتفهم -إن كنت تريد أن تفهم- أن جنرالا أمريكى التعليم والتسليح والهوى والحركات وتعبيرات الوجه فى اللقاءات العامة، لا يمكن أن يقود انقلابا ذا مزاج يسارى أو نزعة اجتماعية أو ميول للتقريب بين طبقات المجتمع المصرى من حيث «الدخل». ولن تحتاج أيضا إلى «فكاكة» كى تدرك منذ أول تسجيل يقال إنه مسرب للسيسى أن الانقلاب العسكرى الذى يخيم بسطوته على مصر الآن رأسمالى من الطراز الأول؛ فالسيسى قالها صريحة فى أول تسريب «هتدفع.. هاوريك اللى عمرك ما شفته»، وتابع مؤكدا «أبو بلاش أنا ماعرفهوش»، مؤكدا فى التسجيل نفسه أن «المصريين ادلعوا» والنصف الثانى من الجملة الذى لم يقله هو «ولازم يدفعوا»! رأسمالية السيسى وانحيازه المطلق والكامل للطبقات الغنية لم تكن بحاجة إلى التسجيل الجديد من بين التسجيلات التى يقال إنها مسربة والذى تحدث فيه عن ضرورة رفع الدعم عن الوقود والخبز وضرورة أن يتم التمهيد لذلك إعلاميا، وساق معلومات «كاذبة» حول تخفيض الأجور فى ألمانيا ودول أخرى، دون أن يذكّره «محمد عطية» الذى كان يحدثه أن الأولى بالتخفيض هى رواتب ضباطه ورجاله التى زادت عدة مرات خلال أقل من عامين، ببساطة لأن انقلابا عسكريا يموله نجيب ساويرس ورموز اقتصاد دولة مبارك لا يمكن أن يكون انقلابا لصالح تعديل الموازين الاجتماعية والاقتصادية فى مصر، فمن دفع ومول حتما يريد المقابل ويرغب فى استرداد ما أنفق. ومنذ اللحظة الأولى وكل تصرفات وتوجهات السيسى وقادة الانقلاب تؤكد أنه انقلاب ينحو إلى أقصى درجات اليمينية والرأسمالية، حتى ملابس الجيش الجديدة التى اختارها السيسى للقادة والضباط والجنود هى نسخ من ملابس الجيوش الغربية. وفى الطريق لاكتشاف المدلولات الأكثر وحشية ورأسمالية فى توجهات السيسى يتبين للجميع بعد التسجيل أن «مسرحية» التوجه نحو روسيا ما هى إلا فيلم هابط أراد أن يخلع على «الفريق أول» مسحة ناصرية، كيف ذلك والسيسى يعلنها صراحة أنه رافض لدعم الدولة للمواطن البسيط؟ إن السيسى أعلن فى التسجيل أنه مصرّ على ممارسة توجهات اقتصادية من شأنها زلزلة واقع المواطن المصرى، توجهات ظل مبارك طوال حكمه مترددا ومنسحبا من إتيانها رغم ما هو معلوم من فساد مبارك ورجاله وسيطرة رجال الأعمال عليه، على الأقل خلال السنوات العشرة الأخيرة من حكمه، وحينما جرؤ رئيس الوراء الأسبق «أحمد نظيف» على إعلان توجهه لتغيير منظومة الدعم فى مصر كان الحدث مدويا أثار جدلا لم يهدأ إلا عندما هدأ إصرار نظيف نفسه على تغيير منظومة الدعم على نحو يضر بالمواطن البسيط لدرجة أنه نفسه «نظيف» علق على كلامه فى مجلس الشعب حول رفع الدعم قائلا «أنا عارف إننا فتحنا الدمامل». كلام السيسى فى التسجيل حول إلغاء الدعم على نحو يهدم أركان حياة المواطن المصرى البسيط الذى تضاعف فقره من جراء التردى الاقتصادى منقطع النظير منذ انقلاب 3 يوليو الماضى يفسر لماذا كان الجمهوريون فى أمريكا هم أكثر الساسة دفاعا عن استمرار دعم السيسى اقتصاديا وكذلك عن استمرار المعونة، كما أنه يكشف بوضوح من كان يقف وراء الشائعات التى كانت تنتشر أيام حكم الدكتور مرسى حول تجاه الحكومة لرفع الأسعار وإلغاء الدعم، وتشويه جهود وزراء مرسى لتنظيم الدعم -وليس إلغاؤه- عبر مشروعات ومقترحات منها الكروت الذكية لوزير التضامن باسم عودة، وهو المشروع الذى نال هجوما كبيرا من إعلام الفلول ثم لم يتكلم عنه أحد عندما أعلن الببلاوى ووزير ماليته أنه الأنسب لوضع مصر وسيرفر لها مليارات الجنيهات! كلام السيسى حول رفع الدعم عن المواطن البسيط ما كان ليقوله لولا أنه يدرك أنه (مسنود) على منظومة عسكرية وأمنية معزولة تماما عن واقع ومعاناة المواطن البسيط، منظومة صارت رواتب أفرادها «خيالية» وامتيازاتهم «أسطورية»، كما أنها منظومة «فوق الدولة» على حد التعبير الشهير للباحث «يزيد صايغ» فى دراسته المهمة (جمهورية الضباط فى مصر)، «منظومة فوق الدولة يأتيها كل ما تريد من أشكال الدعم وتخفيضات الأسعار دون الحاجة إلى قرار حكومى أو بحث برلمانى». ففى دراسته ذكر «يزيد صايغ» أن «العسكر يسيطرون على نسبة كبيرة من اقتصاد الدولة المصرية وفيه مغانم كثيرة لهم وهى بمثابة رشوة للحفاظ على النظام الحاكم. فبالإضافة إلى حقهم فى الحصول على الوظائف الكبيرة فى الدولة بعد التقاعد وتوريث أبنائهم الكثير من الوظائف فى أجهزة الأمن، فلديهم فنادقهم الخاصة ومستشفياتهم الخاصة وحتى أماكن تسوقهم ومكانتهم المرموقة فى المجتمع، ويمكن القول بأنهم نظام اجتماعى يختلف كليا عن النظام الاجتماعى الشعبى المصرى، ولا أحد ينافسهم فى ذلك. كما أنهم يسيطرون على ميزانية الدفاع والمساعدات العسكرية الأمريكية التى تقدر ب1.3 مليار دولار تذهب كلها فى خزانة العسكر دون رقيب أو حسيب». ومن وجهة نظر «صايغ» فإن الطريق لإرجاع المؤسسة العسكرية المصرية إلى حجمها الطبيعى ضمن نظام الدولة سيحتاج سنوات طويلة. وتابع موضحا: يوجد فى وزارة المالية مكتب خاص للتدقيق فى حسابات القوات المسلحة والهيئات التابعة لها، ولا تخضع بياناته لأية سلطة ولا حتى البرلمان المصرى، وينفق جزءا كبيرا من العوائد على بدلات الضباط ومساكنهم أو يتم صرفه لتحسين مستويات المعيشة لديهم. ويوجد 150 شركة مملوكة للدولة فى مصر يديرها ويستفيد من إيراداتها دولة الضباط، وتبلغ رواتب الضباط المتقاعدين العاملين فى إدارات تلك الشركات ما بين 100 ألف إلى 500 ألف جنيه شهريا إلى جانب بدلات شهرية لا تقل عن 10 آلاف جنيه». كما كشفت الدراسة أن كبار الضباط الذين يتم تعيينهم عندما يتقاعدون كرؤساء لشركات حكومية كبرى تتراوح رواتبهم بين 8 و100 مليون جنيه سنويا! إذن فالفريق السيسى فى حربه القادمة ل«فض» الدعم عن المواطن البسيط خبزا وطاقة ما هو إلا جنرال رأسمالى (مسنود) على قوة عسكرية وأمنية يأتيها كل ما تريد، فلا تشعر بالمواطن البسيط الذى مازال يقف لساعات فى طابور الخبز المدعم! والسؤال الآن: إلى أى مدى ستؤثر توجهات السيسى شديدة الرأسمالية فى الحراك الثورى الدائر فى مصر حاليا؟ وهل ستضم إليه شرائح جديدة ممن سيفيقون من غفوتهم على النوايا المتوحشة للجنرال؟