(1) إذا كان هناك عاقل يصدّق أن مجموعة من الأطفال يمكن أن بعرّضوا استقلال دولة للخطر فلن يستحيل عليه أن يصدّق أن "مصر" هذه قرية فى شمال شرق زُحَلْ..!" عبارة وردت فى تعليق ساخرٍ لى على اعتقال 21 تلميذًا بتهمة تعريض استقلال البلاد للخطر. عندما أطلقت هذه العبارة وذكرت فيها "زحل" بالذات دون سائر الكواكب كنت أعنى ما أقول تماما؛ لأن الاستحالة هنا مركّبة أضعافًا مضاعفة.. فسطح زُحل ليس أرضًا صخرية كالقمر وإنما هو محيط هائل من غاز الإيدروجين السائل لعمق مئات الآلاف من الأميال ولكيْ تصل إلى نواته الصخرية تحتاج إلى غواصة خرافية .. وهذا ما حفزنى أن أستحضر تسجيل حلقة من حلقات "العلم والإيمان" للفلكي الهاوى والمبدع الدكتور مصطفى محمود.. لا لإثبات حقيقة الاستحالة فقط.. ولكن لأسباب أخرى أيضا.. ربما أهمها: أن أذَكِّر أنه كان عندنا إعلاما جادًّا تبثه بعض القنوات.. أغلقتها سلطة الانقلاب حتى لا يُسمع إلا صوت المؤيدين لها فقط .. أما القنوات الإسلامية المعارضة فلا مكان لها فى زمن الاستبداد. كانت هذه القنوات تبث ّ برامج متميزة كهذا البرنامج الذى يتحرى الدقة العلمية ويحرص على تثقيف الناس.. ورفع مستواهم المعرفي عن الكون والحياة .. ولا يعمد إلى تخريب عقولهم بالأكاذيب والتضليل وقلب الحقائق.. وإشاعة الخرافات.. كما يفعل إعلام الانقلابيين.. الذى سمعنا فيه: أن هناك كرة أرضية مدفونٌ فيها جثث تحت الأرض فى رابعة.. وأن الإخوان المسلمين هم الذين دمّروا الدولة الإسلامية فى الأندلس.. وأن أوباما من الإخوان المسلمين.. وأن أخوه عضو فى التنظيم الدولي للإخوان..!! وأنهم إرهابيون يملكون أسلحة ثقيلة سيدمرون بها مصر.. وما داموا كذلك فلا بد من استسصالهم وإبادتهم..!
(2) أخطر تصريح أدلى به زعيم الانقلاب لضباط الجيش قوله: أنه لن تكون هناك محاكمات لمن يطلق الغاز المسيل للدموع أو الخرطوش إذا نتج عنه قتل إنسان.. وهو يعلم ضمنًا أن الغاز الذى يستخدمه (كما تستخدمه إسرائيل ضد الفلسطينيين والناشطين الحقوقيين، ليس هو غاز زمان المسيل للدموع فقط وإنما يحتوى على مواد كيماوية تزلزل الجهاز العصبي- العضلي وتؤثر على المخ.. لا يتحمله كثير من الناس فيصابون بتقلّصات عنيفة قد تؤدّى إلى الوفاة .. وكونه يستهين بهذا ويستهين باستخدام الخرطوش، هو دعوة صريحة من السلطة الحاكمة إلى استخدام إي وسيلة للقمع ولو أدت إلى قتل الضحية.. والرصاص الحي جزء منها.. إنه تحريض صريح على القتل..! من الناحية التطبيقية نجد أن سلطة الانقلاب قد تجاوزت هذا التصريح بمراحل: فى مسلسل من المجازر والمحارق والانتهاكات المروّعة لحياة الناس وحقوقهم الانسانية.. ومن هنا نفهم دلالة هذا التصريح على اتجاه السلطة الانقلابية فى التعامل مع الشعب المناهض للانقلاب.. ولكن الأهم من كل شيء أنه اعتراف خطير أدهشنى لأنه يدين صاحبه ويحدد مسئوليته ومصيره أمام محاكم العدل الدولية.. وقد سبقه فى هذا الطريق أكبر مجرمي الحرب فى البوسنة: "ميلوسيفيتش وكراجيتش والجنرال ملاديتش" ولكنهم لم يسقطوا فى هذا الخطأ الفاحش الذى سقط فيه قائد الانقلاب؛ فقد كانوا يغسلون أيديهم من الجرائم البشعة التى ارتكبها الجيش الصربي وملشياته ضد المسلمين.. وزعموا أنها أخطاء غير مقصودة أو انحرافات فردية لم يأمر بها القادة.. وقد احتاج الأمر إلى تحقيقات واسعة استمرت عاما.. قام بها فريق من خبراء الأممالمتحدة لكي يحدد من المسئول عن جرائم الحرب والإبادة الجماعية فى البوسنة والهرسك.. وأصدر وثيقة تاريخية من ثلاثة آلاف صفحة مدعمة بالصور والوثائق والتسجيلات الصوتية لشهود العيان، عرضْتُها فى مقالات مستفيضة بعد صدورها وضمَّنتها فى كتابى عن البوسنة.. وألمحت إليها مؤخرا فى مقال لى بعنوان " القانون وحقوق الإنسان فى ظل الدكتاتورية" .. نشر بتاريخ 31/8/2009م شرحت فيه كيف يفسد القضاء فى ظل الحكومات الدكتاتورية .. أقتبسُ فقرات منها لأنها تنطبق على واقع القضاء المصري الحالي الذى يحاكم الأبراياء بتهم زائفة و يطلق سراح المجرمين.. قلت : لا يمكن أن يجلس قاطع الطريق على منصّة القضاء إلا إذا كانت السلطة العليا قد استولى عليها قُطّاع طريق تمكَّنوا من إبطال فاعلية القوانين والدستور .. ولا تعجب لهذا الكلام المستخلص من أخطر وثيقة صدرت عن الأممالمتحدة فى العقد الأخير من القرن العشرين كنتيجة للتحقيقات التى أجراها فريق من الخبراء والمحققين العالميين فى جرائم الحرب والمذابح التى ارتكبها الصرب ضد مسلمى البوسنة (بين 1992و1995) ، وأثبتوا فيها أن هذه الجرائم ارتُكبت بطريقة نمطية مخططة.. فى أماكن متفرقة من البوسنة .. واستطاعوا أن يتتبعوا مصادر التوجيه والأوامر إلى أعلى المراكز السياسية والعسكرية فى السلطة الصربية .. ولذلك ألْقى القبض على سلوبودان ميلوسفيتش رئيس صربيا كمسئول أول عن هذه الجرائم .. وقُدم إلى محكمة جرائم الحرب اليوغسلافية بلاهاى. وعندما سأل الصحفيون "الدكتور شريف بسيونى" رئيس فريق المحققين عما استخلصه من حكمةٍ بعد ما يقرب من ثلاث سنوات .. قال: [عندما يتمكن قُطّاع الطريق من الاستيلاء على السلطة فى بلدٍ مَا يصبح كل شئ جائز وكل حق مستباح].. ولكن زعيم الانقلاب قد وفّر على القضاء الذى سيمْثُلُ أمامه -بالضرورة عاجلًا أو آجلًا- عناء الكدح والتحقيقات لأنه -بتصريحه- يعترف ضمنيًّا بمسئوليته عن جرائم القتل التى يرتكبها جنوده ومِلِشياته ..ويضع بيديه حبل المشنقة حول عنقه..!
(3)
أردت أن أهدِّأ روْع قارئة اعتصر الحزن قلبها وهي تشاهد أناسًا يرقصون ويفرحون بينما إخوانهم يُقتلون بالرصاص وتسيل دماؤهم الذكية إلى جوارهم فى الشوارع.. قلت لها: "لا تبتئسى ياابنتى فإن بلادة الحس وانعدام الضمير الأخلاقي وغياب المشاعر الإنسانية سمة أزلية فى فئات من البشر تتوارى عن الأعين، و تختبئ فى سراديب مظلمة خوفًا من الردع الاجتماعي.. فى مجتمعات الاعتدال والاستقامة؛ حيث تهيمن فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولكنها تخرج من مكمنها تلقائيا و تطفو على سطح المجتمع كالعفونة عندما تتسلّط على المجتمع حثالة حاكمة من البشر .. تطارد خيار الناس وتغيّبهم فى السجون والمعتقلات وتقتل أبناءهم ونساءهم فى الشوارع وتنشر الإرهاب فى كل مكان . هذه الحثالة البشرية لا تزدهر إلا فى مناخ تنتشر فيه الرذيلة وينفسح الطريق واسعًا للفُساق وأصحاب العلل النفسية للعبث فى المجتمع. من هذه الناحية هى ظاهرة طبيعية لمنظومة فاسدة متّسقة مع نفسها وطبيعتها وأهدافها.. ولكن استمرار الثورة ضدّها علامة صحية على أن جهاز المناعة فى جسم المجتمع لم ينهزم وأن هذه الظاهرة المرضية ستزول مع الانتصار النهائي والقضاء على الفيروسات والجراثيم التى أصابته بالحُمَّى والمرض. وهنا خطرت فى بالى ملحمة رابعة التى قلت فيها:
"الذين حضروا رابعة لن تضيع من ذاكرتهم إشراقاتها الروحية والذين شاهدوها من بعيد تأسرِهم مشاهد الصمود فيها والثبات والتجرّد والإصرار على السلمية إلى أبعد المدى .. والجميع أدهشتهم بروحها الثورية ورمزيتها الآثرة فى مصر وخارج مصر.. وستنتصر روح رابعة على فلول الظلام مهما طال الزمن واشتدّت المعاناة.."
(4)
شاهدت فيديو لزعيم الانقلاب يكشف بوضوح عن فهم العسكر لدور الإعلام.. وخططهم للتعامل معه وللسيطرة عليه.. ويكشف هذا ضمنيًّاعن نواياهم للبقاء فى السلطة زمنًا طويلًا.. غير محدود بخريطة طريق أو بغيرها.. حيث يقول زعيم الانقلاب: إن القوات المسلحة المصرية، تعمل على تطوير خطة إعلامية في إطار تواصلها مع وسائل الإعلام المصرية، مشيدًا بدور المتحدث العسكري .. حيث قال وهو يضحك: "ده حتى أحمد على جاذب جدَّا للستات.." وأضاف : أن القوات المسلحة اختارت مجموعة أخرى، غير المتحدث العسكري الحالي، "لتقديم صورتها عن طريق أكثر من ضابط وبأكثر من شكل". ومن هنا يتضح أن زعيم الانقلاب يخطط للبقاء على رأس السلطة و رئاسة الدولة؛ سواء بانتخابات مزيّفة أو بتوكيلات كالتى جمعتها له حركة تمرّد من قبل .. ويجرى الآن الترويج لهذه الخطوة التى يصحبها تسريبات إعلامية وبالونات اختبار لجس نبض الشارع المصري.. ولمعرفة أيهما أفضل: التزييف أم التوكيل..!
(5)
كنا نتحاور -أنا وحفيدتى- على الهاتف عن الأحوال التعيسة فى مصر.. وعن كمية الأكاذيب الإعلامية التى استقرّت فى عقول الناس.. قالت حفيدتى عبارة لفتت نظرى بشدة : "الآن فقط ياجدّى فهمت قصة المسيخ الدجال الذى سيأتى فى آخر الزمان ليفتن الناس ويدعوهم للإيمان بأنه الإله المنقذ.. الذى سيقودهم إلى الجنة .. فيصدّقه خلقً كثيرون وينقادون له؛ مع أنه مكتوب على جبهته "هذا هو الدجَّال فاحذروه".. قلت لها يا ابنتى: أعرف أنه مكتوب بين عينيه "كافر" للتحذير منه كما تقولين.. ولكن لا تتعجَّبى ولا تستبعدى أن يأتى الدجال وبصحبته نخبة من أكذب الإعلاميين الأبالسة فى مصر و أكبر المضللين فيها.. يصرفون الناس عن رُؤية الحقيقة المسطّرة على جبهته.. ويزينون لهم خريطة الطريق التى رسمها لهم.. ثم يُفاجأُ الجميع -بعد فوات الأوان- بأن خريطة الدجال ليس لها إلا اتجاه واحد هو الطريق إلى جهنم .. وأختم بهذه العبارة التى كتبتها وأنا أشاهد المظاهرات والمسيرات السلمية التى تتوسع ولا تنقطع فى شوارع مصر: "هذه ملحمة جديدة تُسطّر لأول مرة فى تاريخ مصر: الاحتجاج والمظاهرات السلمية مستمرّة رغم استمرار المواجهات الأمنية بالرصاص الحي.. هذا الشعب لن يستسلم لعبودية البيادة .. ولن يتخلّى عن سلميته رغم الاستفزازات المتعمّدة من جانب مليشيات الانقلاب .. فإلى متى يغلق الأغبياء عقولهم عن الفهم..؟! [email protected]