قرر أوباما تأجيل العدوان على سوريا إلى ما بعد المشاورات مع الكونغرس الأميركي ينذر بتحوّل كبير قد تكون تداعياته خطيرة للغاية على مستقبل السياسة الخارجية الأميركية. فالواقع الدستوري يسمح للرئيس الأميركي بأمر عمليات عسكرية محدّدة ومحدودة طالما لا تصل إلى حالة حرب (وكأن العدوان، أي عدوان، ليس حالة حرب!). فإعلان الحرب من صلاحية الكونغرس الأميركي فقط لا غير. وهناك صراع مزمن بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية تعود إلى قيام الدولة الأميركية حول مدى صلاحيات الرئيس الأميركي. العرف كرّس صلاحيات واسعة للرئيس الأميركي خاصة في المجال الخارجي، والكونغرس عادة يوافق على قرارات الإدارة في ذلك الشأن مهما اختلف مع الرئيس. ويستطيع الكونغرس أن يعرقل قرارات الرئيس الأميركي في المجال الخارجي عبر حجب التمويل لتنفيذ تلك القرارات. ولا يغيب عن بال المراقبين داخل الولاياتالمتحدة وخارجها تصرّف إدارة بوش الابن حيال الحرب على العراق حيث تجاوز الكونغرس الأميركي خلافاً لما حصل مع والده حيال حرب الخليج الأولى. فالرئيس الأميركي بوش (الأب) حرص على الحصول على موافقة الكونغرس بعد ما استطاع تجنيد معظم دول العالم في ظل تفكك الاتحاد السوفياتي في مواجهة الرئيس صدام حسين بعد غزو الأخير للكويت. أما الرئيس أوباما فيلجأ إلى الكونغرس ل «التشاور» في قضية تعود حسب معظم القانونيين لصلاحية الرئيس. فالعملية العسكرية «المحدودة» لا تستدعي دعوة الكونغرس بل الوضع في الصورة لقيادته. إن ما أقدم عليه الرئيس أوباما في قرار «تأجيل» العدوان ينذر بتداعيات عديدة: أولاً، الظروف التي أحاطت قرار الرئيس تساهم في ضرب «مصداقية» الرئيس. مختلف المواقع الالكترونية الأميركية وحتى في الصحف الرئيسية ك«الواشنطن بوسط» و«النيويورك تايمز» تسأل حول ملابسات القرار وحتى حول صحّة ادعاءات الوزير كيري (الذي قد يتحول إلى كبش المحرقة السياسية) حول الأدلّة التي تدين الحكومة السورية ورئيسها في استعمال الأسلحة الكيميائية وخاصة غاز السارين، على حد زعم الوزير كيري. الحديث يتركّز حول أهمية الحفاظ على «مصداقية» الرئيس و«هيبة» الولاياتالمتحدة في العالم في حال تراجع عن قرار العدوان. يسأل البعض إذا ما كانت المصداقية أهم من المصالح الحيوية للولايات المتحدة. لم يُقدّمّ الوزير كيري مرافعة عن المصالح الحيوية للولايات المتحدة بل قدّم مرافعة أرادها «أخلاقية ومعنوية» حول عدم السماح لاستعمال السلاح الكيميائي وضرورة معاقبة الرئيس الأسد من دون التورّط في النزاع الداخلي السوري (وكأن ذلك ممكن!). في المرافعة الثانية أقدم الوزير كيري على إثارة أمن الكيان الصهيوني لتبرير العدوان على سوريا لاستقدام عطف الكونغرس والموافقة على العدوان. ثانياً، النتيجة الثانية لقرار أوباما باللجوء إلى الكونغرس يخلق سابقة خطيرة في العرف الأميركي، حيث سيقدم الكونغرس على مناقشة وربما رفض قرار الرئيس ليس لجدواه أو عدم جدواه بل لأسباب فئوية ضيّقة. ذلك الأمر يجعل السياسة الخارجية الأميركية رهينة للمصالح الضيّقة الحزبية داخل الكونغرس الأميركي وهذا ما يثير قلق العالم بأسره. فالمصالح الاستراتيجية تصبح خاضعة لتجاذبات فئوية لا تخلو من الكيدية الحزبية بغض النظر عن «المصلحة العليا» للبلاد. ثالثاً، إن إمكانية الرئيس أوباما في تحقيق أي إنجاز على الصعيد الداخلي أو حتى الخارجي أصبحت قاب قوسين. فالتردّد بغض النظر عن الدوافع التي قد تكون في مكانها يعطي انطباعاً أن الرئيس لا يدري ماذا يفعل وأن اللسان يسبق العقل. وللمسلسل توابع نعرضها في ما بعد.