كان الكولسيوم أكبر مدرج مجانى دائم في العالم , أنشئ عام 80م وسط مدينة روما التاريخية , وهو عبارة مسرح كبير يتسع لأكثر من 50,000 شخص , حيث كان الأباطرة الرومان ينظمون معارك دامية للمصارعين مع الوحوش الضارية أو مع بعضهم البعض , وحينما قررت روما الوثنية قتل النصاري أتباع المسيح وضعوهم في ساحة الكولسيوم كي يصارعوا الأسود الضارية , بينما يجلس المتفرجين حسب مقاماتهم يتصايحون ويشهقون ويشعرون بنشوي عالية جراء رؤية الدماء تسيل والأشلاء تتطاير , وهم يتناولن الخمر أو يأكلون الفاكهة . انتهت هذه المشاهد الدموية داخل الكولسيوم منذ قرون , فلم يعد هنالك مصارعين يقاتلون بعضهم حتي الموت وسط صيحات إعجاب المتفرجين , وانتهت قصص مصارعة الوحوش التي كانت تكتب فصولها بدماء المحاربين وسط ساحة الكولسيوم , ولكن لم تنتهي هذه الشهوة المتعطشة لرؤية منظر الدماء تراق ومشاهد الأشلاء تتطاير وصور الفتك والقتل والوحشية والدموية . فاستعاض الغرب بهذا الكولسيوم الحجري القديم البالي كولسيوما أخرا أكثر تطورا , وأكثر دموية , وأكثر دقة , كولسيوما رقميا يستطيع أن يري من خلاله مشاهد أفظع ومناظر أكثر دموية وأكثر بشاعة , هذا الكولسيوم الرقمي كان وسائل الإعلام الغربية التي تنقل من مختلف بقاع الأرض مشاهد القتل الحصري وصور القنص المباشر وفيديوهات حرق الأحياء ومقاطع اغتصاب العفيفات وصور استباحت حقوق الإنسان .وتغير المصارعون فلم يعودوا العبيد والأسري الذين ساء حظهم وساقهم قدرهم إلي الموت , بل أصبحوا المستضعفين في كل مكان , تحكي صورهم قصص الاستخفاف بإنسانيتهم وتنقل وحشية الجلاد ودموية القاتل وسادية الحاكم . الجولة الأولي في الكولسيوم .. "دماء وأشلاء وحرق الأحياء في ميانمار " بالامس عرضت قناة ال BBC النسخة الانجليزية , تقريرا أخباريا متلفزا من العاصمة البورمية ماندالاي , عن مآسي المسلمين والمذابح البشعة التي يتعرضون لها علي أيدي البوذيين . تضمن التقرير بعض المشاهد الحية لوقائع مطاردة وقتل وحرق للمسلمين الروهينجيا وتدمير حرق منازلهم ومحلاتهم التجارية, ووضع التقرير المتلفز يديه علي الحقيقة حينما أجري مقابلة مع احد أبرز الرهبان البوذيين المأججين للصراع بين القومية البوذية التي تمثل الأكثرية وقومية الروهينجيا المسلمة التي تمثل الأقلية ويدعي أشين ويراثو والذي أسس منظمة قومية تعرف ب 969، تدعو البوذيين للتعامل في البيع والشراء والزواج مع بني عقيدتهم فحسب.ويؤكد التقرير أن هذا الراهب ومنظمته المسماة 969 هما السبب الرئيس في جرائم إضطهاد المسلمين في ميانمار , حيث ظهر ويراثو على غلاف مجلة التايم التي وصفته "كوجه الرعب البوذي"، الجولة الثانية في الكولسيوم .. " إغتصاب وذبح وقتلي الكيماوي في سوريا " عرضت قناة ال CNN الأمريكية تقارير إخبارية متلفزة حول مجازر النظام السوري وخاصة مجزرة الغوطتين بدمشق التي راح ضحيتها ما يزيد 1722 قتيل جراء القصف المكثف بالسلاح الكيماوي علي الأبرياء العزل . ووصفتها الاندبندنت البريطانية في صفحتها الرئيسية " الوحشية في سوريا " " Atrocity In Syria " وتناقلت وسائل الإعلام الغربية عبر التقارير الصحفية والتقارير المتلفزة صور الضحايا وتفاصيل المجزرة وشهادات الناجين حول وحشية وبشاعة الجريمة التي عاشوا تفاصيلها واكتوو بنارها وفقدوا جرائها الأهل والأصدقاء . الجولة الثالثة في الكولسيوم .. " دماء وأشلاء وقنص وحرق الجثث في مصر " تناقلت قناتي ال CNN الأمريكية و ال BBC النسخة الانجليزية وغيرهما من الفضائيات الغربية تقارير متلفزة حول الأحداث الجقيقية لمجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة , أكدت هذه التقارير الإخبارية علي حجم القتل والدماء والدمار والوحشية التي اتسم بها آداء الداخلية والجيش المصري في فض الإعتصامين وتناقل الإعلام الغربي علي مدار أيام فيديوهات حصرية لأحداث فتل وقنص متظاهرين عزل بالإضافة إلي تجريف الجثث وحرقها , وقدرت الأرقام المبدئية لضحايا المجزرة البشعة بآلاف القتلي والمصابين والمعتقلين ..بينما علقت الصحافة الغربية علي مجزرة فض اعتصامي رابعة العدوية والنهضة بأنها أسوأ كارثة في تاريخ مصر الحديث فأشارت صحيفة ال "واشنطن بوست" الأميركية إن القوات الأمنية المصرية أطلقت النار والقنابل المسيلة للدموع على المعتصمين من أنصار محمد مرسي، وإنها قامت بحرق وتجريف الخيام في رابعة العدوية والنهضة، كما شنت حملات اعتقال وضرب للمتظاهرين هناك نشرة خلالها مئات الصور والفيديوهات الحصرية لأحداث المجزرة الوحشية .وأخيرا تناولت صحيفة “الجارديان” البريطانية الملف أيضا في موضوع تحت عنوان ”القمع العسكري في ميدان تيانانمين المصري” , وذلك في إشارة إلى قيام الجيش الصيني بقتل آلاف المعتصمين السلميين دهسا بالدبابات في ميدان تيانانمين عام 1989، وتقول الجريدة إن”الهجمة الدموية التي قام بها الجيش المصري ضد مواطنيه تمثل نقطة اللاعودة بالنسبة للحكومة”. وهنا تنتهي جولات الكولسيوم , ونعود مرة أخري إلي الحقيقة المريرة والتي تؤكد علي معرفة الغرب عبر إعلامه لتفاصيل الأحداث المأساوية التي يمر بها بني البشر في مختلف أقطار العالم حيث تعرض عليهم وسائل إعلامهم التي تتسم بالمهنية والحرفية العالية أدق التفاصيل لأهم الأحداث وأمام المساحات الواسعة لحقوق الإنسان وحرية التعبير ومعايير النزاهة الصحفية والإعلامية فإنهم ينقلون الحقيقة كما هي ويقولون عنها ما لم يستطع أن يقوله أصحابها لأنهم فقدوا الأمان وسلبوا الحرية وضاقت عليهم أوطانهم . ولكن أمام القوانين الغربية التي تعترف بالإنسان وحقوقه وتجرم هضمها أو تجاوزها , فإنك لا تجد المواقف الغربية متسقة أو منسجمة مع هذا الحجم الهائل من القوانين التي ترسخ لحرية الإنسان وحقوقه وتفرض علي هذه المجتمعات حمايتها أينما وجدت والحفاظ علي كرامة الإنسان أينما أهينت . التفسير الوحيد لهذا التناقض ما بين المعرفة والمواقف لا يمكن إن يفسره إلا طبيعة المجتمعات الغربية التي ساهمت حضارة الرومان في تشكيل مفرداتها وصناعة خلفياتها الفكرية والحضارية والتي مازالت عالقة بأذهان الكثيرين منهم مهما اختلفت لغاتهم أو تنوعت أعراقهم ألا وهي ثقافة الكولسيوم . فالغرب يمارس حقوق الإنسان في مجتمعاته هو فقط , ومعْني بحرية التعبير في بلاده هو فقط , ويثأر لكرامة الإنسان في محيطه هو فقط , وينتفض للعدالة الضائعة في أرجائه هو فقط , ولكنه لا يأبه لمعاناة الدنيا بأسرها , فما دامت خارج حدوده وبعيدا عن أفراده فهي كولسيوما مفتوحا يشاهد فيه مالا يستطيع أن يراه في مجتمعاته ويتلذذ لما يعرض علي قنواته , ولكن قراره لا يتعدي الشجب والتنتديد هذا إن كانا متوافقان أومنسجمان مع مصالحه .. وقديما قالوا :مادام الكولوسيوم قائماً ستبقى روما قائمة وحين تسقط روما سيسقط العالم بأسره. فسحقا لحقوق الإنسان إن كنا نعيش في كولسيوما مفتوحا نمتّع فيه الغرب بمشاهد دمائنا وبصور قتلانا وأفلام مذابحنا .... والآن :مادامت جراحنا نازفة فسيبقي الكولسيوم مفتوحا وحينما نعالج الجرح فسينهدم الكولسيوم وستسقط روما وسنتخطي العالم بأسره لنقوم من كبوتنا ..