تُعد الانقلابات العسكرية أمضى الوسائل وأقصر الطرق وأشهرها لتغيير السلطة الحاكمة - منتخبة كانت أم غير ذلك - في بلادنا الإسلامية في العصر الحديث؛ ويرى العديد من رجالات الفكر والرأي من أبناء مجتمعاتنا أنه باستقراء وقائع وتفاصيل أشهر هذه الانقلابات يتضح بما لا يدع مجالا للشك أن مواقف، أو بالأحرى، انحيازات ما تُعرف بالقوى الغربية الكبرى هي العامل الأكثر حسما في نجاح هذه الانقلابات من عدمه فهل هذا صحيح ؟ وإذا كان صحيحا فكيف ولماذا ؟ آثرت أن أبدأ مقالي بهذه التساؤلات وأن أجعل الإجابة عليها هدفه وموضوعه بدلا من أن أبدأه بفرضية أو رؤية ذاتية ثم توظيف باقي سطور المقال للتدليل على صحتها؛ حتى أترك الساحة كاملة لوقائع هذه الانقلابات تتحدث هي عن نفسها، ولأن المقام لا يستطيع بطبيعة الحال تناول جميع الانقلابات التي شهدتها بلادنا الإسلامية في تاريخها الحديث وما أكثرها !!! فثمة انقلابات أربع فرضت نفسها على هذا المقال نظرا لمحوريتها وخصوصيتها وما أحدثته من زخم وتطورات أثرت على المنطقة بأسرها؛ علما بأن بعضها لاتزال أحداثه ماثلة أمامنا الآن بشخوصها الحية وتفاصيلها المتحركة - في وطننا الغالي مصر - كما أن بعضها الآخر لا تزال آثاره حية ممتدة التفاعل على الأرض وإن أُسدل الستار على مجريات أحداثه؛ بينما تحول عدد منها بفعل حركة التاريخ التي لا تهدأ إلى جزء هام وحساس من ذاكرة شعوبنا وأرشيفها العسكري والسياسي بل والنفسي أيضا، وإلى موضوع المقال. 1- البداية هنا مع الانقلاب الذي قام به الجيش الجزائرى على نتيجة الانتخابات الحرة التي أقدم عليها الرئيس الأسبق الشاذلي بن جديد على رأس العقد الأخير من القرن الفائت، في واحدة من حسناته الكبيرة القليلة، والتي كانت قد تمخضت جولتها الأولى عن فوز كاسح لجبهة الإنقاذ الإسلامية بنسبة قاربت التسعين بالمائة؛ الأمر الذي لم يُرض قيادات الجيش بتركيبتها العلمانية الفجّة الممجوجة وحلفاءهم في الداخل والخارج فانقض الجيش على صناديق الاقتراع مُصادراً لنتائجها ومُلغياً لجولتها الثانية لأسباب أقل ما يُقال عنها أنها صبيانية نزِقة؛ إذ أنهم أعلنوا أن ما دفع بهم إلى هذا الانقلاب هو إعلان جبهة الإنقاذ معارضتها بل وعدائها الشديد للديمقراطية وكأن جماهير الشعب الغفيرة التي أولتهم ثقتها قبل أيام - آنذاك - لم تكن على علم ببرنامجهم الانتخابي المعلن للدنيا بأسرها، ثم وكأن قوة خفية قد نصّبت من قيادات الجيش أوصياء على شعبهم الذي لم يبلغ الحلم بعد !!! إلا أن الشيء الذي من المفترض أن يثير دهشتنا، وإن كان لم يفعل ولم يعد يفعل، هو ذاك الصمت المطبق الذي توارت خلفه القوى الدولية المزعومة؛ فلا الأمريكان ولا البريطانيين الذين قادوا حربا شعواء على العراق بدعوى تحريره من دكتاتورية صدام حسين (!!!!) قُتل فيها أكثر من مليون إنسان وهٌجرت ملايين البشر ودُمر البلد بأكمله وتحول إلى بلد يتسول غذاءه بعد أن كان مواطنوه يتمتعون بمستوى راق بين أعلى الدخول في العالم بل وخرج العراق من التاريخ لعقود طويلة قادمة، أقول أنه لا الأمريكان ولا البريطانيين ولا غيرهم ممن لا تنقطع صلواتهم في محراب الديمقراطية قد نبس ببنت شفة مذ وقع الانقلاب قبل ما يقرب من اثنتين وعشرين عاما وحتى الساعة؛ وكأن ما جرى قد وقعت أحداثه في كوكب جديد بعيد لم تلتقط ضجيجه وسائل إعلامهم ولم تصل إليه أجهزة مخابراتهم بعد، غاية ما بدر منهم في صمت هو عدم الإعلان عما يشي باستمرار علاقاتهم بالزعماء الأشاوس الجدد هناك والتي لم تنقطع يوما؛ حتى عاودت هذه العلاقات الظهور إلى العلن سريعا دون البحث عن حُمرة خجل في وجه حضارة السيد الأبيض الذي يحتكر لنفسه الدفاع عن الديمقراطية وحقوق الإنسان. القوة الوحيدة التي تعاطت مع الأمر علانية هى فرنسا (الحرة !!!) إذ أعلنت عن تأييدها المطلق للانقلابيين بل وأسبغت عليهم الدعم المادي والسياسي والمعنوي وأظن أن ضرورة تقديم هذا الدعم العلني هي ما حدت بالغرب اضطرارا إلى الزج بالفرنسيين إلى الواجهة وذلك لخبرتهم الاستعمارية الطويلة بأرض المليون شهيد والذين أُضافت الحرب الأهلية التي أعقبت الانقلاب الغاشم بين الجيش وجبهة الإنقاذ، التي هبّت تدافع عن شرعيتها ومشروعها وإرادة ومستقبل شعبها، أقول أن هذا الاحتراب قد أضاف إلى المليون الأول ربع مليون شهيد فضلا عن خسائر اقتصادية وكوارث اجتماعية لم تنته آثارها حتى اليوم. 2- الانقلاب الثاني هو آخر انقلاب قام به الجيش التركي على حكومة مدنية منتخبة أتت إلى السلطة عبر صناديق الاقتراع وهي حكومة نجم الدين أربكان زعيم حزب "الرفاه" ذي التوجه الإسلامي. حدث هذا قبيل نهاية العقد الأخير من القرن المنصرم حيث قام الجيش بانقلاب مبطّن - معلوم أن استقالة أربكان قد خفّفت قليلا من مظاهر الانقلابات المعهودة في تركيا - لم يكتف بإزاحة الحكومة من المشهد السياسي بل أمعن في التنكيل برموزها وقياداتها فأُلقي بزعيمها أربكان إلى غياهب السجون بتهمة "خدش علمانية الدولة" مع منعه من ممارسة العمل السياسي لخمس سنوات متصلة؛ وتم حل حزبه وتفكيك أوصاله وهدم قواعده وحُظر على كوادره ممارسة العمل السياسي لبضع سنوات. فعلى أي نحو كان موقف الأمريكان والأوربيين وقتها باعتبارهم متعهدي الحفلات الانتخابية والناطق الرسمي باسم الديمقراطية في عالمنا التعيس؟ لقد لاذ القوم بالصمت المريب مع الخطوات الأولى لهذا الانقلاب - الذي شاركوا حتما في وضع لمساته - ثم أعلن الاتحاد الأوربي، ذرا للرماد في العيون وفقا لما سوف يتضح لاحقا، بأن ما حدث سوف يؤثر بالسلب على محاولات تركيا للحصول على عضوية الاتحاد كما لم تفتهم مناشدة الجيش التركي بعدم التعرض لقادة الحكومة المنكوبة بسوء وضمان محاكمات عادلة لهم وهي المحاكمات التي تمثل العقوبات المشار إليها آنفا جزءا من ثمارها. فكيف خدش أربكان وحزبه الأساس العلماني للدولة؟ يُعد هذا الرجل من أبرز الزعماء ذوي التوجه الإسلامي في العالم في القرن الماضي - على تواضعٍ في دهائه مقارنة بتلميذه الفذ أردوغان - ومما أصاب الغرب بمس من الجنون أن يبرز رجل من هذا الطراز في تركيا رأس الخلافة الأخيرة وزعيمة العالم الإسلامي في عصر سجلت صفحاته الأولى أوضاعا متردية وتخلفا واضحا في النصف الغربي من الكرة الأرضية؛ ولا تزال الذاكرة الغربية مشحونة بالانتصارات المدوية المتتالية لدولة الخلافة في مستهل عهدها على جيوش الغرب في مجملها وما مثلته هذه الدولة من تحد عسكري وسياسي بل وعلمي حضاري للغرب المتخلف آنذاك حينما كانت هذه الامبراطورية تصارعهم فتصرعهم المرة تلو الأخرى. وغني عن البيان كيف أصرّ الغرب على تمزيق أوصال هذه الإمبراطورية - أو رجل أوربا القوي حسب وصف ساسة الغرب لها - مع مطلع نهضته وبداية قعودها وكيف أنه قضى على زعاماتها الإسلامية بل وظن أنه قد نسف أية أرضية يمكن أن تطل تركيا القديمة على عالم اليوم من خلالها عبر ما فعله رجلهم مصطفى كمال بهوية الأمة وروحها وبنيتها الثقافية والحياتية إذ أنه قد جرّ البلاد جرّاً صوب الغرب وربطها في ذيله وصبغها بلونه فإذا بهم فجأة يقفون أمام رجل يُصرّح وسط جمع دبلوماسي وسياسي كبير احتضنته بلاده أن الحل الوحيد للقضية الفلسطينية يتمثل ببساطة في إلقاء إسرائيل في عرض البحر والتخلص منها نهائيا، ثم أخرج من سترته نموذجا لعملة جديدة مكتوب عليها "الدينار الإسلامي" كعملة موحدة مقترحة للعالم الإسلامي الموحد من أقصاه إلى أقصاه. هكذا إذا خدش الرجل علمانية تركيا آخر حاضرة للخلافة الإسلامية - رغم ما شاب أداء زعاماتها من قصور وسلبيات معروفة في الشطر الأخير من عمرها. وما أن عادت القيادات ذات التوجه العلماني الفج لتصدُّر وقيادة الحياة السياسية في البلاد إثر هذا الانقلاب حتى طوى الغرب هذه الصفحة من ذاكرته وضرب صفحا جميلا عن قيادات الانقلاب ووثّق روابطه بهم وبالزعماء والساسة الجدد الذين أتوا بها فوق ظهور الدبابات؛ ولا تخفى دلائل الرضا الغربي عنهم على أي متابع حتى أن الأمريكيين كان لهم الدور المخابراتي الحاسم في اعتقال عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني بعد هذا الانقلاب بسنوات قليلة الأمر الذي عُد نصرا كبيرا لحكومة بولانت أجاويد اليسارية الهشة آنذاك ولا عزاء للديمقراطية في بلادنا. 3- ثالث هذه الانقلابات هو ذاك الذي قام به الجيش السوداني بقيادة المشير عمر البشير متحالفا مع جبهة الإنقاذ الإسلامية عام 1989، وجميعنا يعلم كيف أقام الأمريكيون وحلفاؤهم الدنيا ولم يقعدوها وفتحوا العديد من جبهات الاحتراب الداخلي مع الحكومة المركزية؛ حيث استعرت الحرب مع الجنوب وبدأت مأساة دار فور غربا وغيرها؛ ولم يشفع للبشير أن تبرّأ علنا من جبهة الإنقاذ وزعيمها حسن الترابي بل ومناصبته إياهم العداء فظلت المؤامرات والحصار الخانق والتحركات العدائية التي طالت شخص البشير نفسه إلى أن كان انفصال جنوب السودان عن شماله ولا يزال النظام هناك في عُزلة عن العالم ويجابَه بالدسائس والمؤامرات لشغله عن مواصلة جهوده التنموية ومحاولةً لإسقاطه على الرغم من تأييد تلك الدول الكبرى ومباركتها للانقلاب أول الأمر حتى ظهر الوجه الإسلامي للانقلابيين فثارت ثائرتهم ولم تهدأ حتى الساعة. 4- وأخيرا نصل إلى محطتنا النهائية حيث الانقلاب العسكري الغاشم الذي يكاد أن يعصف بوطننا لولا رحمة من الله سبحانه نسأله أن تتداركنا؛ ولا تزال صفحة هذا الانقلاب مفتوحة فأحداثه ماثلة أمام أعيننا بما تشكله من جرح غائر في جسد الوطن يعلم الله وحده متى وكيف سيندمل. وفي اعتقادي - وحسبما يتضح مما تقدم ذكره - فإنه ما من انقلاب جرى أو يجري في بلادنا الإسلامية يتم بمنأى عن القوى الغربية الكبرى وعلى رأسها الولاياتالمتحدة بالطبع، إلا أنني أزعم أن هذه القوى قد أولت الانقلاب الحالي في مصر أهمية خاصة فتولت بنفسها وضع خططه وإعداد لمساته وتوزيع أدواره ثم الإشراف عن كثب على تنفيذه خطوة بخطوة، دلائل ذلك ما يلي: أ- لقد بات معلوما الآن أنه قد بدأ التحضير للانقلاب إثر الإعلان عن تصدر الدكتور محمد مرسي لقائمة المتنافسين في الجولة الأولى من انتخابات الرئاسة - على سبيل المثال فقد أثبت هذا في مقال سابق على صفحات الشعب بتاريخ 20-7 الجاري- ومن غير المتوقع أو المنطقي أن تكون الأطراف الداخلية التي قهرت الثورة إرادتها قهرا قد أفاقت من هول هذه الصدمة المريعة بهذه السرعة فلملمت جراحها وأعادت ترتيب أوراقها لتبدأ في حياكة مؤامرة محكمة إلى هذا الحد. ب- لقد كان هناك توزيع دقيق للأدواروتنسيق كامل بين جميع الأطراف ممثلة في بعض دويلات الخليج العربي التي شاركت في المهزلة بكل أبعادها، ودحلان رجل إسرائيل وأمريكا الأول في المنطقة ورجاله الذين تولوا أمر تفجيرات سيناء وغيرها - مع جهات أخرى بالداخل - والأطراف الداخلية ممثلة في الوزارت والمؤسسات والمصالح من أعلاها إلى أدناها بما في ذلك الأجهزة الرسمية ذات اليد الطولى السرية منها والعلنية وبعض الهيئات القانونية الرفيعة ومعظم رجال الأعمال ... الخ؛ إضافةً إلى عمليات "التنويم المغناطيسي" عبر تصريحات داخلية كانت تصدر من حين لآخر تؤ كد مثلا على أن لعبة السياسة قد تُركت لأهلها من الساسة المدنيين، وتصريحات خارجية جوفاء تعبر عن مساندة النظام الديمقراطي الوليد وهي تصريحات تضر ولا تنفع؛ وعبر الزج ببعض القوات لتأمين بعض مقار أحزاب "المولاة" لبعض الوقت، ومن خلال بعض الأموال التي أُمر بعض الأذناب الصغار بضخها في شرايين الاقتصاد المتهالك وعدم الممانعة في دراسة تقديم قرض دولي لمصر تلك الدراسة التي طال أمدها حتى أُسقط النظام قبل أن تنتهي؛ مما يعني أننا أمام واحدة من أبشع سيمفونيات الحقارة والتآمر في عالمنا المعاصر ولا بد لها من مايسترو أو قيادة محنكة خبِرت فنون الدسائس ومارست ألاعيب المؤامرات دهرا ولها تجارب عديدة في إسقاط و"تصنيع" وتسويق الحكومات، قيادة تقف أطول وتنظر أبعد، وهو ما لا يتوافر حاليا سوى في الأمريكيين وحلفائهم. ت- لقد كان، ولا يزال، هناك قصف إعلامي موجّه ضد الرئيس مرسي (حفظه الله) وأركان حكمه وجميع ما اتخذه من خطوات وإجراءات عبر طوفان من الأبواق التي تعزف ذات النغمات بذات المفردات في واحدة من أغرب حالات توارد الخواطر !!! بل إن عددا كبيرا من هذه القنوات قد أُطلقت خصيصا لهذا الغرض فوجدناها تبدأ عملها منذ الوهلة الأولى بحرفيةِ واقتدارِ من أتقن فنون اللعبة وخبِر الساحة جيدا قبل أن تطؤها قدماه !!! فمن ذا الذي يمتلك مهارة التخطيط وقوة الدفع العلمي والمعلوماتي والتكنولوجي الهائلة التي تستطيع جعل شيء كهذا واقعا ملموسا في لمحة قصيرة من الزمن ؟؟؟ !!! باستقراء ما تقدم ذكره يتضح جليا أن الأمريكيين وحلفاءهم ممن يدورون في فلك الصهيونية الصليبية يباركون ويدعمون أي انقلاب عسكري تشهده بلداننا طالما أنه يحول دون وصول التيار الديني إلى سدة الحكم لتأكدهم من أنه القوة الوحيدة الكفيلة بدحر مشروعهم الاستعماري الاستعبادي المتغطرس والمتوحش والحاقد على كل ما هو إسلامي؛ وطالما أنه يحول دون التأسيس لحكم ديمقراطي يحترم آدمية مواطنيه ويحقق لبلاده العزة والكفاية واستقلال القرار. انعكس هذا من خلال مواقفهم وممارساتهم إزاء الانقلاب الغاشم الذي يفتقد إلى أدنى مبرر حقيقي في الجزائر، وتكرر في تركيا ويستدعي ذاته حاليا على أرض مصر؛ وما الانقلاب "الأمريكي" الخالص على حكومة الدكتور مصدق في طهران في منتصف القرن العشرين منا ببعيد - رغم اختلافنا الجذري مع محطات التاريخ المعاصر لإيران برمتها. كما أنهم يقفون بكل ما أوتوا من قوة في وجه أي انقلاب يأتي بالإسلاميين إلى سدة الحكم حتى وإن كان مقبولا في سياقه الخاص أو- على الأقل - أقل حدة وفجاجة من انقلابات أخرى سبق لهم تأييدها وهو ما حدث، ولا يزال حادثا، في السودان. وعطفا على حديثنا حول ما يدور في مصر الآن فإنني أود أن ألفت الأنظار إلى أن التغير الذي اعترى موقف الحلف الصهيوني من الانقلابيين مؤخرا، بعد أن خُيل لهذا الحلف مرور الانقلاب، يشير بما لايدع مجالا للشك إلى أن نجاح الانقلاب وعودة السلطة إلى جنرالات الجيش مرة أخرى هو الحد الأدنى الذي تسعى إليه قوى هذا الحلف القذر؛ إذ يشي تراجعهم ومن خلفهم أذنابهم من طغاة دويلات الخليج عن وعودهم المالية التي أسرفوا فيها حتى توهم البعض أن أنهارا من العسل واللبن سوف تغمر بقاع المحروسة بأنهم يسعون إلى زيادة الحنق الشعبي ضد الانقلاب حتى يكون ثمة توازنا نسبيا في القوى بين كلا الطرفين مع ضغوط هائلة تدفع بالبلاد إلى أتون حرب أهلية، لا قدر الله؛ وإذا تفادت مصر هذه الكارثة فيكفيهم مؤقتا عودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل 25 يناير مع تغيير الوجوه والأسماء حتى إشعار آخر؛ وجميعنا يعلم كم كانت هذه الأوضاع تصب في صالحهم وتعمل ضد صالح مصر تماما. إلا أن هؤلاءالصهاينة الأوغاد وأذنابهم دائما ما ينسون أو يتناسى بعضهم وينكر البعض الآخر أن لهذا الكون رب يرعاه ويدبر شئونه، أن لهذا الكون صاحب لا يجري في ملكه إلا ما أراد وكيفما أراد. وإنني أرى بشريات انتصار الإرادة الشعبية الحرة والشرعية الحقيقية تنبثق من رحِم الانقلاب ذاته؛ فظني أن المولى جل في علاه قد طمس على قلوبهم وأعمى بصائرهم؛ ولتتأمل معي عزيزي القارئ ما هو الوضع الذي كان من الممكن أن تئول إليه الأمور اليوم لو أن قيادات الانقلاب أغلقت مع ما أغلقته من قنوات التيار الديني عددا من قنوات الاتجاه الآخر وهي بالفعل تحض على الكراهية وتذكي نيران الفتنة ولو كان هذا الإجراء ذرا للرماد في العيون؟ لو أنهم احتجزوا عددا من الساسة والإعلاميين على الطرف الآخر احتجازا صوريا على الأقل؟ لو أنهم سارعوا إلى الإعلان عن استفتاء حول مصير الرئيس مرسي في حكم البلاد في غضون شهر واحد حتى وإن تم طهو نتائجه سلفا؟ لو أنهم لم يأتوا على المكتسبات المالية والحياتية التي حققها الدكتور مرسي للعديد من فئات الشعب بل وركزوا جهدهم في زيادتها تأليفا لقلوب أبناء وطننا الموجوعة والمنهكة مع انقلابهم بدلا من اهتبال الفرصة والتكالب على الغنائم التي ينتزعونها من أفواه الفقراء والجوعى والمرضى من أبناء شعبنا؟ لو أنهم أقالوا وزراء البترول والكهرباء والداخلية الذين كان تردي الخدمات في وزاراتهم آواخر أيام حكم الرئيس مرسي من أقوى الأسباب التي أشعلت احتجاجات 30 يونيو حسبما صرحت قيادات الانقلاب نفسها بذلك بل أبقوا عليهم في مناصبهم الآمر الذي ساعد في فضح أبعاد المؤامرة وأطرافها، ماذا لو أنهم لم يتعجلوا في إطلاق سراح كبيرهم أمير المؤمنين مبارك؟ في اعتقادي أن في عدم التفاتهم إلى شيء من هذا تكمن أولى بشريات النصر؛ يبقى علينا فقط بعد التوكل على الله وإخلاص النية له والتضرع إليه بالدعاء في كل وقت الأخذ بالأسباب التي تتمثل في هذا السياق بشكل أساس في صمودنا السلمي حتى آخر نفس وهو ما أراه حقيقة واقعة؛ والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*كلية اللغات والترجمة - جامعة الأزهر [email protected]