من الخطا فى تقديرى ان نكتفى فى الدستور الجديد باعادة كتابة الباب الخاص بالحريات الاساسية كما ورد فى دستور 1971على حالته . فهذا يعنى الجهل التام بتطور نظم الرقابة القضائية الحديثة فى مجال الحريات العامة.و الهدف من هذا المقال هو وضع بعض المقترحات تحت نظر الجمعية التأسيسية لتستنير بها عند صياغة الباب الخاص بالحريات الاساسية الذى يتصدر عادة اغلب الدساتير. ولعل التأسيسية تجد في هذه المقترحات ضمانات اضافية جديدة لم يعرفها من قبل النظام الدستورى المصرى و يمكن ادراجها فى مشروع الد ستور الجديد اذا ما خلصت النوايا و صدقت الطوايا.اولا. تبنى نظام الرقابة السابقة على دستورية القوانين : و تفترض هذه الرقابة ان تحال التشريعات الماسة بالحقوق و الحريات العامة على وجه الخصوص بعد التصويت عليها فى البرلمان و قبل إصدارها الى المحكمة الدستورية العليا اما بناء على طلب رئيس الجمهورية او ثلاثين عضوا من مجلس الشعب او من رئيس مجلس الشعب و ذلك للفصل فى دستوريتها خلال ثلاثين يوما من تاريخ الإحالة. و هو ما يستوجب تعديل قانون المحكمة الدستورية لوضع الأحكام التنظيمية لهذا الاختصاص الدستورى الجديد. و حكم المحكمة فى هذا النوع من الرقابة ملزم و له حجية الشئ المقضى شانه فى ذلك شان احكامها فى اطار الرقابة اللاحقة على صدور القانون. مما يعنى اولا ان رئيس الجمهورية لا يستطيع ان يصدر النصوص المقضى بعدم دستوريتها و ثانيا على مجلس الشعب ان يلتزم بما قضى به القاضى الدستورى اذا ما وجبت مراجعة التشريع على ضوء حكم الدستورية. و الميزة الكبرى هنا هو الا نقع فيما و قعنا فيه من مازق دستورى بصدد القضاء بعدم دستورية بعض القوانين مثل قانون انتخاب اعضاء مجلس الشعب بينما كان من الممكن تفادى هذه النتائج لو مورست هذه الرقابة قبل صدور التشريع و ليس بعد إصداره و العمل الفعلي به . الحل اذن ان نكشف مبكرا على صحة التشريع و ما اذا كان يعتوره العيب و السقم الدستورى منذ التصويت عليه. فالميزةهنا واضحة بلا منازع. الاوهى تنقية النظام القانوني باستمرار من التشريعات التى تنتقص او تهدر الحقوق و الحريات الاساسية و ذلك قبل العمل بها.ثانيا. يتعين من الان فصاعد ان يميز المشرع الدستورى ذاته بين مدركين طالما خلط بينهما المشرع العادى(البرلمان) فى مصر . المدرك الاول هو تنظيم الحرية تنظيما تشريعيا كافلا لممارستها و هذا التنظيم يرد على طرائق و وسائل ممارسة الحرية و لا يرد على اصل الحق فيزهقه او يفرغه من مضمونه. و هو ما يقودنا الى المدرك الثانى وهو تقييد الحريات و الانتقاص منها او الإهدار الكامل لها بالمصادرة. و هو ما لا يجوز.و اذا انطوى التشريع على نصوص مقيدة للحرية لانتهك الاعتراف الدستورى للحريات التى تم الانتقاص منها. و لذلك فعلى المشرع الدستورى ان يقيد سلطة المشرع العادى و يمنعه من الانزلاق الى حدود التقييد و الانتقاص للحريةو هو ما لا يتأتى الا من خلال التمييز الواضح بين التنظيم المسموح به و التقييد او الانتقاص المحظور دستوريا. فالأول يرد على وسائل و أساليب الممارسة و الثانى يرد على اصل الحق و مضمونه.ثالثا. و حرصا على تقديم ضمانات جديدة و فعالة للحريات العامة يجب ان تتمتع المعاهدات الدولية - و لاسيما الاتفاقيات الخاصة بحقوق الانسان - بقوة قانونية تعلو على التشريع شريطة ان يتم التصديق عليها لتندرج فى النظام القانونى المصرى و تصبح جزءا لا يتجزأ من أحكامه المنوط بالقضاء تطبيقها فى جميع انواع المنازعات. و تبعا يجوز للقضاء العادي و الادارى أن يوقف تطبيق نص تشريعى فى نزاع ما اذا ما تراءى له ان التشريع واجب التطبيق مخالف لمبادئ الحقوق و الحريات الأساسية المنصوص عليها فى المعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان و المدرجة فى النظام القانوني المصري بالتصديق عليها.على ان إدراج هذه الآلية يحتم إدراج نص دستورى يحدد القيمة القانونية للمعاهدات و يمنح للقاضى الية اللجوء اليها كمصدر من مصادر مشروعية الاعمال الادارية و كقاعدة مرجعية لسلامة التشريعات فى مجالات الحريات العامة. و هنا يكمن دور الجمعية التأسيسية بإدراج نص فى مشروع الدستور الجديد يحدد القوة القانونية للمعاهدات حتى تتقرر لاول مرة فى النظام الدستورى المصرى الرقابة على موافقة التشريع للمعاهدات الدولية المتعلقة بحقوق الانسان بواسطة القضاء.ان محك المرحلة الجديدة و معيارها هو ما يتضمنه الدستور الجديد من قواعد و اليات. و المرور من جمهورية الى اخرى و من نظام دستورى الى نظام دستورى اخر يشف عنه الدستور الجديد و الحرص على تضمينه طرائق حمائية جديدة و فعالة لحماية الحريات العامة.من الممكن طبعا ان تظل الجمعية التاسيسية مخلصة للمبادئ القديمة المعروفة منذ السبعينات و كان القانون الدستورى لا يعرف التطور و لا الحداثة و كان خبراء القانون فى مصر مقطوعى الصلة بما يحدث فى العالم كله. لكن فى هذه الحالة ان إحباط أمة باسرها لا يكفى لمسح عار جمعية تأسيسية متأخرة عن زمانها على الاقل بنصف قرن.و من الممكن فى النهاية ان تخدعنا الاقوال البلاغية فى الدستور دون ان يكون لها لا الطبيعة و لا القيمة الشارعة التى تميز المبادئ الدستورية الملزمة بمضمونها القاعدى الواضح و هو ما أخشاه و احتسب له.وفى هذه الحالة لا املك الا ان اردد الحكمة الإلهية فى قولها السديدوَمِنَ النَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاة الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَام وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبّ الفساد واذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم فحسبه جهنم و لبئس المهاد.دكتور وجدى ثابتاستاذ القانون الدستورى و الحريات العامةبكلية الحقوق و العلوم السياسية جامعة لاروشل.الفرنسية.عضو الجمعية الفرنسية للدستوريين.