اتفق الكثيرون داخل مصر وخارجها علي أن أقوي وأجمل ما في ثورة25 يناير أنها بلا قيادة محددة في شخص أو تنظيم أو أيديولوجية, واعتبروا أنها بالتالي ثورة الشعب كله, بما فيه قواته المسلحة, وهذه حقيقة, وأن الثورة لذلك السبب تعتبر في عرف علماء السياسة والاجتماع ثورة ما بعد حداثية, ولكن يبدو أننا الآن في حاجة إلي مصارحة أنفسنا بأن تلك الميزة الأقوي والأجمل في ثورتنا يمكن أن تصبح نقطة ضعف بالغة الخطورة علي الثورة, وعلي مستقبل الوطن نفسه, ليس لعيب في الثوار الذين هم في الحقيقة غالبية الشعب, ولا لعيب في المطالب التي أجمعت عليها القوي الشعبية وتبنتها القوات المسلحة والحكومة, وأصبحت بالتالي هي المشروع السياسي لثورة25يناير, والتي يمكن تلخيصها في إقامة دولة مدنية ديمقراطية عصرية متقدمة اقتصاديا, ولكن العيب يتمثل في استغلال قوي مجتمعية لنقطة الضعف هذه وقد ظهرت بوادرها لاستنزاف طاقة المد الثوري, ومعه قدرات وموارد الدولة, السياسية والاقتصادية, وتهدد معهما تماسك المجتمع في قضايا فرعية, منها ما هو طائفي ومنها ما هو فئوي, ومنها أيضا ما هو إجرامي. غير أن أخطر ما يهدد الثورة, ومستقبل الوطن هو شبح الإنهيار الاقتصادي الذي يلوح الآن من بعيد نسبيا, ولكنه سوف يقترب بأسرع مما يتصور الكثيرون إذا تركت الأمور تسير مسيرها الحالي. فإذا انتقلنا من هذا الإجمال إلي تفصيل مركز بعض الشيء للظواهر والاتجاهات السلبية التي تنذر باستنزاف طاقة الثورة, وقدرات الدولة والمجتمع, ومواردهما, فسوف نبدأ بأحدثها ظهورا, وهو محاولة الزج بالثورة, خاصة شبابها, في المطالب الفئوية أو المنازعات السياسية, والاستقواء بالثوار علي الحكومة أحيانا, أو علي المنافسين السياسيين في أحيان أخري, والنموذج الصارخ علي هذه الظاهرة المقيتة كان محاولة البعض في الاتحاد العام لعمال مصر تحريض بعض التنظيمات الشبابية علي الانضمام إلي ما سماه هؤلاء البعض مليونية عيد العمل لإسقاط وزير القوي العاملة, بذريعة أنه يريد هدم الاتحاد الحالي للعمال, وأنه أعلن تحيزه لمشروع تأسيس نقابات مستقلة. وبصرف النظر عن الصدق من عدمه في هذا الادعاء ضد الوزير, وبصرف النظر عن الثقة من عدمها في نفي الوزير لهذا الادعاء, فإن القضية الأصلية في هذا النزاع هي مبدأ الحريات النقابية, وهو مبدأ يدخل في صميم المشروع الديمقراطي لثورة25يناير, فضلا عن أن إقرار هذا المبدأ يرفع اسم مصر من القائمة السوداء لمنظمة العمل الدولية التي تضم الدول المقيدة للحريات النقابية فيها, ومن ثم فكيف تصورت بعض قيادات اتحاد العمال أن شباب الثورة يمكن أن ينضموا لهذا التحرك, فضلا عن أن يؤيدوه أصلا؟ ومع أن اتحاد العمال نفي في تصريحات وبيانات أنه حاول الزج بشباب الثورة في خطته ضد الوزير, فإن بعض هؤلاء الشباب ممن اتصل بهم ممثلو اتحاد العمال زاروا الأهرام, وأبلغونا بأن الاتصال حدث معهم بالفعل, وأنهم رفضوا الاستجابة, وأنهم سوف يصدرون بيانا بهذا المعني. واقترحنا عليهم أن يعجلوا بإصداره إجهاضا لمحاولة الزج بالثورة وبالثوار في مثل هذا النوع من المنازعات, وهذا ما فعلوه مشكورين, ونشرته الأهرام وصحف أخري في حينه. ولم تكن تلك المحاولة من جانب البعض في اتحاد العمال هي الأولي من نوعها علي مستوي المجتمع ككل, ولكنها كانت أكثرها جموحا وخطورة وتداولا في وسائل الإعلام والصحف, فقد سبقتها محاولات مماثلة أضيق نطاقا, وأقل عمومية, وغالبا لم تسلم أية مؤسسة أو شركة أو هيئة جري فيها نزاع أو انشقاق بعد الثورة لأسباب مقبولة أو غير مقبولة, من محاولة أطراف هذه النزاعات الاستقواء بشباب الثورة بعضهم ضد بعض, حتي بدا الأمر مضحكا مبكيا في بعض الأحيان, ولحسن الحظ فإن التنظيمات الشبابية سرعان ما انتبهت لهذه اللعبة ومع ذلك لا يزال الآخرون( من غير شباب الثورة) يستمرئونها. وإذن فالخطر لايزال قائما, خاصة إذا وقع التباس يؤدي إلي خطأ في الحسابات مثلما حدث في جمعة التطهير في ميدان التحرير في قضية ضباط القوات المسلحة المتظاهرين. وبالطبع فإن أزمة قنا الأخيرة, ودون دفاع عن الحكومة في اختيارها غير الموفق للمحافظ, ودون إنكار وجاهة الاعتراضات( غير الطائفية) علي شخص المحافظ, تصب في النهاية في مجري الأحداث والظواهر التي تهدد باستنزاف طاقة الثورة والبلاد وتهدد المشروع الثوري الأصلي. وكذلك ما حدث في أبي قرقاص في المنيا. وما سيحدث اليوم إن حدث لا قدر الله من محاصرة الكاتدرائية المرقسية من جانب السلفيين بسبب قضايا تغيير الأديان, وغير ذلك من الظواهر والأحداث الطائفية, ما حدث منها, وما سوف يحدث. علما بأن المشروع المدني الديمقراطي العصري للثورة هو العلاج الحقيقي وطويل المدي لكل هذه المشكلات, بشرط أن نتركه يكتمل, ونساعده جميعا علي أن يكتمل. ويلي ذلك خطورة علي الثورة أولئك الذين كانوا صامتين قبلها, ثم ها هم أولاء يغتنمونها لفرض مشروع معاكس لمشروعها تماما, ونقصد بهذا المشروع المعاكس مشروع إقامة الدولة الدينية, حتي وصل الأمر ببعض هؤلاء إلي التهديد بفرضها بالقوة, مع أن الثورة أرست مبدأ عدم إقصاء أي تيار أو تنظيم أو حتي فرد. ويصاحب كل تلك الظواهر والاتجاهات السلبية التي تستغل حقيقة أن ثورة25 يناير ليس لها صاحب إلا الشعب كله, ومعه قواته المسلحة, حالة فراغ سياسي كامل, وحالة من شبه الفراغ الأمني, وإذا كانت مسألة الفراغ الأمني لا تحتاج إلي مزيد من الحديث, فإن حالة الفراغ السياسي تحتاج منا كثيرا من الاهتمام والبحث عن حلول, إذ لا تزال النخبة السياسية التي تملأ المشهد الإعلامي ضجيجا غائبة عن التحرك المؤثر, فضلا عن فقدانها أهم عناصر الحركة السياسية وهو التنظيم. وإذا كنا قد رصدنا غياب هذه النخبة عن المشهد في قنا, فقد كان ذلك نموذجا للغياب عن كل القضايا والأحداث المهمة, وترك المساحة لتنظيمات قد لا تكون مؤمنة بمشروع ثورة25 يناير المدني الديمقراطي, وسوف يتكرر هذا النموذج ما لم تتداع هذه النخبة شخصيات وأحزاب ومنظمات نقابية ومدنية إلي مؤتمر يضع ميثاقا شعبيا للفترة الانتقالية يركز بوضوح قاطع لا لبس فيه علي التزامات المجتمع قبل الحكومة, والخطوط الحمراء المرفوض تجاوزها في المنافسة السياسية, والنقاش العام, علي أن يسفر هذا المؤتمر عن آلية منظمة لرصد كل انتهاك لتلك الالتزامات وكل تجاوز للخطوط الحمراء, ويوفر مقدما الغطاء السياسي والشعبي لتعامل الحكومة بحسم مع الانتهاكات والتجاوزات تطبيقا للقانون. وقبل أن نصل إلي الخطر الاقتصادي علي ثورة25يناير, وعلي الدولة وأمنها القومي, نستعرض بسرعة نماذج أخري لاستنزاف طاقات الثورة والمجتمع, فلا تزال ظاهرة البلاغات الكيدية تتفشي, ومعها الاستنزاف الإعلامي لشباب الثورة أنفسهم, ومحاولة جعلهم مرجعية للحكم علي كل شيء وكل شخص عبر الإعلام. وهنا أشهد بأن هؤلاء الشباب أكثر وعيا من الانزلاق في هذا الفخ, وأنهم أحرص من الجميع علي حماية ثورتهم منه, ولكن الخطر كامن علي كل حال. كذلك هناك ما وصفته صحيفة نيويورك تايمز بالتناقض الذي تشهده مصر بين دعوات الانتقام من النظام السابق ورموزه, وبين تطبيق العدالة والتركيز علي المستقبل, والحيرة ما بين اتباع نموذج جنوب إفريقيا للمصالحة أو نموذج دول شرق أوروبا, أو المزج بين التجربتين, أو نسيان فكرة المصالحة بالكامل والمضي قدما فيما يحدث الآن( أي إهمال المستقبل من أجل الانتقام من الماضي, وهذا شرح من جانبنا لما يقصده مراسل نيويورك تايمز في القاهرة). ||ونصل الآن إلي شبح الإنهيار الاقتصادي, ويكفي أن نلخصه في عدة مؤشرات أولها أن تلبية احتياجات البلاد تتطلب سحب3 مليارات دولار شهريا من الاحتياطي النقدي, في وقت تقل فيه موارد النقد الأجنبي لإنخفاض السياحة و انخفاض تحويلات المصريين في الخارج مع عودة مئات الألوف وربما الملايين من ليبيا وغيرها من الدول العربية, واحتياجهم للعمل, ودخولهم سوق الاستهلاك. وبالطبع فإن العجز في ميزان المدفوعات يتفاقم, وسوف يستمر ويزيد عجز الموازنة, وكما توقع وزير المالية فسوف ينخفض معدل النمو إلي أقل من3% أي أنه سيكون أقل من معدل الزيادة السكانية إذا أضفنا إلي معدلات المواليد المصريين الذين عادوا أو سيعودون إلي وطنهم من مهاجرهم المؤقتة في الدول العربية مثل ليبيا وغيرها كما سبق القول. ومن المهم هنا التأكيد علي أن ما ينشر في الخارج حول سلبيات الوضع الاقتصادي في مصر وعدم الاستقرار السياسي فيها سوف يترك أثره السلبي علي رغبة المستثمرين ورجال الأعمال في العودة أو الدخول لأول مرة للعمل في البلاد. ويبقي بصيص من الأمل في تحسن الوضع الداخلي سياسيا واقتصاديا وأمنيا قبيل انعقاد مؤتمري لندنونيويورك بعد ثلاثة أسابيع من الآن طبقا لما نشرته الأهرام أمس علي صفحتها الأولي لدعم الاقتصاد المصري والترويج للاستثمار الأجنبي المباشر فيه. ||فإذا أعدنا قراءة السطور السابقة لإكتشفنا أن كل ما ذكرناه من سلبيات ومخاطر تهدد الثورة والوطن ليست من صنع الثورة, وكثير منها لم يكن, ولن يكون, من قبيل التداعيات الحتمية لهذا الحدث التاريخي الضخم, ولكنها من صنع قوي بعينها, أو نتيجة لأخطاء يمكن التوقف عن اقترافها. لذا فنحن جميعا مطالبون برد الجميل للثورة والثوار, ليس فقط بالتوقف عن تلك الممارسات الضارة وغيرها مما لم نذكره, ولكننا مطالبون أيضا بالمبادرات لمكافحتها, وشل قدرتها علي الانحراف بالثورة والوطن إلي هاوية التمزق وإلإفلاس الاقتصادي والأخلاقي.