جدار برلين في 5 مارس 2011، وقف آلاف المصريون أمام مقار جهاز أمن الدولة، مطالبين بحماية أوراق ومستندات الجهاز من "الحرق" و "الفرم". المشهد لم يكن الأول من نوعه؛ ففي 15 يناير عام1990، كان هناك حدثاً مشابهاً في ألمانياالشرقية؛ حيث حاصر "الألمان" لنفس السبب مقار أمن الدولة "الشتازي" هناك. المركز الثقافي الألماني في القاهرة، نظم بحضور، سفير جمهورية ألمانيا الاتحادية "ميشائيل بوك"، نقاش مع "هيربرت تسيم"، نائب مدير القسم المكلف من الحكومة الألمانية للاستعلام عن ملفات المخابرات التابعة لألمانياالشرقية، للتحدث عن كيفية تعامل ألمانيا مع ملفات البوليس السري في ألمانياالشرقية بعد وحدتها. يحكي "تسيم": أبواب المقار في ألمانياالشرقية فتحت فجأة بعد محاصرة المتظاهرون لها، وأعتقد أن الشرطة وقتها وقفت بجوار حركة الشعب؛ لأن جهاز أمن الدولة كان له الأولوية عنها في تلك الفترة. يقول "تسيم": كان الألمان شجعان لدخولهم الجهاز الأكثر تسليحاً بعد الجيش الألماني، ليعلموا بعد ذلك أنهم تمكنوا عن طريق "اللجان الشعبية" التي شكلوها داخل المقار من حماية 15 ألف و 500 جوال يحتوي على أوراق "مفرومة"، و31 ألف اسطوانة بيانات مسجلة، و ألفين و500 فيلم يحملان لقطات مراقبة اجتماعات، ومليون ونصف صورة، بجانب آلاف الأفدنة من المستندات. "الوثائق مسجلة إلكترونياً ولا توجد مشكلة في حرق وفرم تلك الوثائق".. عبارة ترددت في مصر أكد "تسيم" أنها قيلت في ألمانيا وقتها، ولكن "الألمان" لم يقتنعوا بهذا المبرر، وظلوا متواجدين داخل مقار الجهاز.. "كانت شجاعة بالغة.. كانوا على حق والاحتفاظ بالوثائق كان الحل".. هكذا أكد "تسيم" الذي يحكي: تمت انتخابات حرة في ألمانيا، شكرت الحكومة بعدها المواطنين وطالبتهم بمغادرة مقار الأمن والذهاب لبيوتهم مبررة ذلك بأنها حكومة شرعية ستتولى هي الأمر، ولكن وجود أشخاص داخل تلك الحكومة يطالبون بالتخلص من "الماضي وفظائعه" وبناء "مجتمع جديد" دفع "اللجان الشعبية" للبقاء والتصميم على الاحتفاظ بالمستندات، مطالبين بمحاسبة "من تتبعهم واضطهدهم سياسياً لمدة 40 عاماً". أمام هذا الإصرار قال البرلمان الألماني "نعم" للاحتفاظ بالمستندات. ومن هنا بدأت الحكومة الألمانية، في تشكيل جهاز للاحتفاظ بتلك الوثائق، وتوفير ماسح ضوئي لجمع أجزاء الأوراق المقطعة. "تسيم" يقول أنهم جمعوها في أرشيف خاص، وأصدرت الحومة قانوناً يسمح بالإطلاع على ملفات هذا الجهاز، وأصبح من حق كل فرد التقدم بطلب للإطلاع على ملفه، بشرط "إخفاء" أسماء الآخرين الموجودين في نفس الملف؛ لأن الجهاز الأمني هناك "كان يتدخل في التفاصيل الخاصة والدقيقة للناس". 6.5 مليون شخص ألماني، تقدموا بطلبات للإطلاع على وثائقهم؛ بهدف التعرف على المعلومات الموجودة بها، أو تبرئة ساحته من المسجل فيها. "في عام 2005 بدأت أعداد الطلبات تتزايد".. قالها "تسيم" متذكراً: لم يتصور من اقتحموا المقار وأنشئوا لجان شعبية لحماية المستندات في 1990 أن يظل مواطنون بعد 20 عاماً يتقدمون بطلبات للإطلاع على الملفات الخاصة بهم. البعض أثار وقتها مخاوف من حدوث اغتيالات لمن وردت أسماءهم بالوثائق، أو حدوث فوضى، ولكن "تسيم" يقول أن الوقت أثبت أن "الناس تعاملوا بمسئولية"، كما قدم بعضهم بلاغات للمدعي العام، وقاموا بمحاولات لتعقب الجناة، وفقاً للقانون. جهاز أمن الدولة الألماني تم حله كاملاً دون وجود بديل، مبرراً ذلك أن هناك "جهاز الشرطة مهمته التصدي للإرهاب ومحاولات التجسس والحفاظ على أمن المواطن".. هكذا قال "تسيم" مضيفاً أن قوام الجهاز كان نحو 100 ألف عامل منظم عسكرياً تم تسريحهم جميعاً، وأوضح أن بعضهم "انتحر" و "الجنرالات الكبار" كانوا قد وصلوا لسن التقاعد، والأفراد العاديين "اعتبروها فرصة عظيمة للاندماج في المجتمع" وأسسوا شركات صغيرة بفضل نظام الاقتصاد الألماني الحر. "الوثائق تراث وتاريخ".. هكذا لخص "تسيم" أهمية تلك الوثائق، واصفاً إصرار الشعب على الاحتفاظ بها أنه "كان صائباً جداً". كما هو الحال في مصر، لم تخل مقار جهاز أمن الدولة الألماني من السجون، ولكن "تسيم" يقول: الآن يمكن زيارتها كمتاحف، وبعضها أصبح مقار للدراسات التاريخية، مضيفاً: الأشخاص الذين سجنوا بها من قبل.. يزوروها الآن. وعن الوقت الذي اتخذته ألمانيا، في حصر محتويات الورق "المفروم"، قال أنه بعد 20 عاماً تم الانتهاء من 500 جوال فقط، من أصل ألف و500، متماً أن جمعية ألمانية بدأت مشروع ريادي جديد، باستخدام تكنولوجيا جديدة، لمحاولة الإسراع في الانتهاء من حصر المعلومات التي تحتويها الوثائق. استبعد "تسيم" قدرة بلاده على تقديم النصح، ونقل خبراتها في التعامل مع الوثائق، إلى مصر معللاً ذلك بأنه لا يمكن تطبيق نموذج بحذافيره في بلد آخر، وكل بشعب يجب أن يجد حل لنفسه حتى يناسبه. واختتم نائب مدير القسم المكلف من الحكومة الألمانية للاستعلام عن ملفات المخابرات التابعة لألمانياالشرقية، ندوته قائلاً: "كان الطريق صعباً ولكننا نجحنا بشكل كبير".