«لم يصدق الثوار أنفسهم حين وجدوا أن الأبواب يتم فتحها أمامهم، ولم يعرف أحد وقتها كيف حدث ذلك ولماذا. اقتحموا المبنى وتحفظوا على الوثائق، بما فيها آلاف الأوراق المفرومة». المشهد ليس وصفا لوقائع السبت 5 مارس الحالى، لدى اقتحام مقار أمن الدولة فى القاهرة والإسكندرية وقنا وغيرها، بل لقطة من ثورة شعب ألمانياالشرقية عام 1989 ضد الحزب الشيوعى، والمشهدان المصرى والألمانى يتطابقان بشكل مذهل. مساء السبت الماضى، كان هيربرت تسيم، نائب مدير قسم الاستعلام عن ملفات مخابرات ألمانياالشرقية، يتحدث فى المركز الثقافى الألمانى بوسط البلد عن تجربة ألمانياالشرقية فى تفكيك أمن الدولة، فحين بدأت الثورة الألمانية فى تحقيق انتصارات متتالية ضد النظام، شعر جهاز أمن الدولة الألمانى «ستاشى Stasi» بالخطر، وأن ملفاته التى طالما استخدمها النظام فى بطش المعارضين، ستكون دليل إدانة ضده. أكتوبر 1989، بدأ ضباط الجهاز فى تدمير كل ما تقع عليه يدهم من وثائق، فى حين شرع الثوار فى محاصرة مقر الجهاز راغبين فى منع العاملين فيه من الخروج، للضغط على النظام القمعى. يروى هيربرت أن الجهاز كان مكروها بشدة من باقى أقسام وزارة الداخلية، الذين سئموا من سيطرة الجهاز الجهنمى على كل مجريات الدولة، وهو ما دفع قوات الشرطة إلى فتح الأبواب أمام الثوار. حين دخل الثوار مقر «ستاشى» عثروا على ملايين الوثائق مرتبة فى أكثر من 31 ألف أسطوانة للأوراق، ومليون ونصف المليون صورة، و1500 شريط فيلمى لمشاهد مراقبة واجتماعات لضباط الجهاز، وما يزيد على 15 ألف حقيبة من الأوراق التى حاول الضباط تدميرها. وأصرت اللجان الشعبية للثورة على التحفظ على الوثائق والاعتصام داخل مقر أمن الدولة لحين ايجاد وسيلة للتصرف فيها. قام بعض المسئولين الحكوميين فى تدمير النسخ الإلكترونية من الوثائق بحجة سهولة نسخها وبالتالى إعادة استخدامها لقمع المعارضين مرة أخرى، «وكان هذا خطأ وقعنا فيه، فكان يجب علينا أولا أن نطلع على مضمون هذه النسخ قبل أن نسمح بتدميرها». وتحت ضغط إصرار الشعب الألمانى الحفاظ على جزء مهم من تاريخه، أنشأت الحكومة لجنة خاصة للتعامل مع وثائق أمن الدولة. وكان على الشعب الألمانى أن يتعامل مع 100 ألف موظف وضابط يعملون بالجهاز، خاصة أن الجهاز كان له طبيعة عسكرية ومسلح بشكل كبير. «بعض الدول التى لم تتعامل بشكل جيد مع العاملين السابقين فى أمن الدولة قد عانت الأمرين منهم»، مثل بولندا التى تجاهلت العاملين بأمن الدولة بعد تفكيكه فاستخدموا نفوذهم فى نشر الشائعات والفتن والانتقام من خصومهم مسلحين بمعارفهم ومعلوماتهم. فشلت الكثير من المحاولات فى إدانة الضباط السابقين بالجهاز أو الحكم عليهم بأحكام قاسية نتيجة لصعوبة تطبيق قانون العقوبات على العاملين فى أجهزة أمنية تابعة للدولة، «عمل معظمهم فى القطاع الخاص بأعمال تجارية عادية، وذابوا فى المجتمع لكن العاملين المهمين أصبحوا معروفين وبالتالى زال خطرهم». وبعد أن زال خطر أمن الدولة، بدأت الحكومة عملية دراسة التاريخ السرى لألمانياالشرقية من خلال وثائق أمن الدولة، وهى العملية التى استمرت على مدى العشرين سنة الأخيرة. استطاع قسم الاستعلام عن ملفات مخابرات ألمانياالشرقية أن يقوم بأرشفة ملايين الملفات داخل مبانى أمن الدولة وتحليل محتوياتها، كما تعمل اللجنة بنشاط فى إعادة بناء الوثائق المفرومة والمحترقة. «الكثير من هذه الملفات كان ينتمى لتصنيف إف 16، الذى يتضمن معلومات عن الضباط والعاملين بالجهاز». وبعد الأرشفة، قرر البرلمان الألمانى تمرير قانون ينظم التعامل مع وثائق أمن الدولة، وأصبح من حق كل ألمانى أن يتقدم بطلب للاطلاع على ملفه داخل أمن الدولة ومعرفة ما بداخله. «نقوم بدراسة الطلب ونقدم للمواطن نسخة من ملفه نحذف منها المعلومات التى قد تخص آخرين»، ويتقدم 5 آلاف ألمانى شهريا بطلبات للإطلاع على ملفات أمن الدولة. لم تكن ألمانيا بحاجة إلى إنشاء جهاز بديل عن أمن الدولة، خاصة أنها لم تكن تعانى من خطر الإرهاب. «كل دولة عليها أن تجد السيناريو الأنسب لها، سواء كان إلغاء الجهاز نهائيا أو تطهير الجهاز من الفاسدين والإبقاء على الضباط الصالحين».